مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [الآية ١١١] استعارة. وذلك أنه سبحانه لمّا أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم في الجهاد عن دينه ، والمنافحة عن رسوله (ص) ، وضمن لهم على ذلك الخلود في النعيم ، والأمان من الجحيم ، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة ؛ وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة ، وكانت الصفقة رابحة ، لزيادة الأثمان على السلع ، وإضعاف الأعواض على القيم.
وجملة هذا الباب ، أنّ العبادات كلّها كالتجارات ، في أنها طلب للمنافع. فالعبادات (٣) طلب لمنافع الاخرة ، والتجارات طلب لمنافع الدنيا.
وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) [الآية ١١٧] استعارة. لأن حقيقة الزّيغ الاعوجاج والميل. والمراد : من بعد ما كادت قلوبهم تزول من عظم الخيفة ، وتقنط من نزول الرحمة ، فتكون بذلك كالشيء الزائغ بعد الاستقامة ، والمستمال بعد الثبات والرصانة.
ومن الدليل على ذلك ، قوله تعالى ، بعد هذه الآية : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) [الآية ١١٨] فهذه أيضا استعارة. لأن النفس بالحقيقة لا توصف بالضّيق والاتساع ، وإنما المراد بذلك المراد بالقول الأول ، من أنه عبارة عن انضغاط القلوب بشدّة الكرب ، وبلوغها منقطع الصبر.
وقوله سبحانه : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) [الآية ١٢٠] وهذه استعارة. فالمراد بها ، أنهم لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم ، عمّا يبذل النبي (ص) فيه نفسه ، ولا يحفظوا مهجهم في المواطن التي تحضر فيها مهجته ، اقتداء به ، واتّباعا لأثره. وهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيرا ، فيقولون : رغبت بنفسي عن الضيم ، وأرغب بك يا فلان عن القتل ، أي أضنّ بنفسي عن أن تذلّ ، وأنفس بمثلك عن أن يقتل.
__________________
(٣). في الأصل «بالعبادات» ، وهو تحريف من الناسخ.