وبرهان ذلك : أنه قد يعارض ذلك قول آخر قالته جماعات مثل هذه ، والحق لا يعارض والبرهان لا يناقضه برهان آخر ، وقد تقصّينا هذا في كتابنا الموسوم «بكتاب الإحكام في أصول الأحكام» فأغنى عن ترداده والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد : فكل من كان من أهل الملل المخالفة فبلغته معجزات النبي صلىاللهعليهوسلم وقامت عليه البراهين في التوحيد فهو مضطر إلى الإقرار بالله تعالى وبنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وكذلك كل من قام على شيء ما أي شيء كان عنده برهان ضروري صحيح وفهمه فهو مضطر إلى التصديق به سواء كان من الملل أو النحل أو من الفتيا أو غير ذلك ، وإنما أنكر الحق في ذلك أحد ثلاثة : إما غافل معرض عما صح عنده من ذلك مشتغل عنه بطلب معاشه ، أو بالتزيد في مال أو جاه أو صوت أو لذة أو عمل يظنه صلاحا ، أو كسلا أو إيثارا للشغل مما يتبين له من ذلك عجزا وضعف عقل وقلّة تمييز لفضل الإقرار بالحق ، أو مسوّف نفسه بالنظر ، كحال كل طبقة من الطبقات الذين نشاهدهم في كل مكان وكل زمان ، وإما مقلد لأسلافه أو لمن نشأ بينهم قد شغله حسن الظن بمن قلد أو استحسانه لما قلد فيه ، وغمر الهوى عقله عن التفكير فيما فهم من البرهان ، قد حال ما ذكرنا بينه وبين الرجوع إلى الحق وصرف الهوى ناظر قلبه عن التفكر فيما بيّن له من البرهان ونفر عنه وأوحشه منه فهو إذا سمع برهانا ظاهرا لا مدفع فيه عنده ظنه من الشيطان وغالب نفسه حتى يعرض عنه ، وقالت له نفسه لا بدّ أن هاهنا برهانا يبطل به هذا البرهان الذي أسمع وإن كنت أنا لا أدريه ، وهل خفي هذا على جميع أهل ملتي وأهل نحلتي أو مذهبي أو على فلان وعلى فلان وفلان وفلان ولا بد أنه قد كان عندهم ما يبطلون به هذا.
قال أبو محمد : وهذا عام في أكثر من يظن أنه عالم ، وفي كل ملة وكل نحلة وكل مذهب ، وليس واحد من هاتين الطائفتين إلا والحجة قد لزمته وبهرته ، ولكنه غلب وساوس نفسه وحماقاتها على الحقائق اللائحة له ونصر ظنه الفاسد على يقين قلبه الثابت ، وتلاعب الشيطان به وسخر منه فأوهمه لشهوته لما هو فيه أن هاهنا دليلا يبطل به هذا البرهان وأنه لو كان فلان حيّا أو حاضرا لأبطل هذا البرهان.
وهذا أعظم ما يكون من السخافة لأنه تصديق لما لا يدري ولا سمع به وتكذيب لما صح عنده ظهر إليه ، ونعوذ بالله من الخذلان.
والثالث منكر بلسانه ما قد تيقن صحته بقلبه إما استدامة لرئاسة أو استدرار مكسب أو طمعا في أحدهما مما لعله يتم له أو لا يتم ، ولو تم له لكان خاسرا الصفقة