بالشم كالهواء والنار والحصى والزجاج وغير ذلك ، وما عدم الطعم لم يدرك بالذوق كالهواء والنار والحصى والزجاج ، وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن ، والنفس عادمة اللون والطعم والمجسة والرائحة ، فلا تدرك بشيء من الحواس بل هي المدركة لكل هذه المدركات ، وهي الحساسة لكل هذه المحسوسات ، فهي حساسة لا محسوسة ، وإنما تعرف بآثارها ، وبراهين عقلية ، وسائر الأجسام والأعراض محسوسة لا حساسة ولا بد من حسّاس لهذه المحسوسات ولا حساس لها غير النفس ، وهي العالمة التي تعلم نفسها وغيرها وهي القابلة لأعراضها التي تتعاقب عليها من الفضائل والرذائل المعلومة بالعقل كقبول سائر الأجرام لما يتعاقب عليها من الأعراض المعروفة بالعقل ، والنفس هي المتحركة باختيارها المحركة لسائر الأجسام ، وهي مؤثرة مؤثّر فيها ، تألم وتلتذ وتفرح وتحزن ، وتغضب وترضى ، وتعلم وتجهل ، وتحب وتكره ، وتذكر وتنسى ، وتنتقل وتحل ، فبطل قول هؤلاء إن كل جسم فلا بد من أن يقع تحت الحواس أو تحت بعضها لأنها دعوى لا دليل عليها ، وكل دعوى عريت من دليل فهي باطلة.
وقالوا : كل جسم فإنه لا محالة يلزمه الطول والعرض ، والعمق والسطح ، والشكل والكم والكيف ، فإن كانت النفس جسما فلا بد من أن تكون هذه الكيفيات فيها أو يكون بعضها فيها ، فأي الوجهين كان فهي إذن محاط بها ، وهي مدركة بالحواس أو من بعضها ، ولا نرى الحواس تدركها فليست جسما.
قال أبو محمد : هذا كله صحيح وقضايا صادقة ، حاشا قضية واحدة ، ليست فيها وهي قولهم وهي مدركة من الحواس أو من بعضها ، فهذا هو الباطل المقحم بلا دليل ، وسائر ذلك صحيح ، وهذه القضية الفاسدة دعوى كاذبة وقد تقدم أيضا إفسادنا لها آنفا مع تعرّيها عن دليل يصححها. ونعم فالنفس جسم طويل عريض عميق ، ذات سطح وخط وشكل ومساحة وكيفية يحاط بها ، ذات مكان وزمان ، لأن هذه خواص الجسم ولا بد ، والعجب من قلة حياء من أقحم مع هذا «فهي إذا مدركة بالحواس» وهذا عين الباطل لأنّ حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس ، لا يقع شيء منها لا على الطول ولا على العرض ولا على العمق ، ولا على السطح ولا على الشكل ، ولا على المساحة ، ولا على الكيفية ، ولا على الخط إنما تقع حاسة البصر على اللون فقط ، فإن كان في شيء مما ذكرنا لون وقعت عليه حينئذ حاسة البصر وعلمت ذلك الملون بتوسط اللون وإلّا فلا ، وإنما تقع حاسة السمع على الصوت فإن حدث في شيء مما ذكرنا صوت وقعت عليه حاسة السمع حينئذ ، وعلمت ذلك المصوت بتوسط الصوت وإلا فلا.