الآخر ، إذ من أعظم المحال الممتنع أن يكون شيئا طول كل واحد منهما ذراع وعرضه ذراع وعمقه ذراع ثم يسعان جميعا في واحد ليس هو إلّا ذراع في ذراع فقط ، ويلزمه مثل هذا في الطعم والرائحة والمجسة ، لأن كل هذه الصفات توجد في كل جهة من جهات الجسم الذي هي فيه ، كما يوجد اللون ولا فرق. وقد يذهب الطعم حتى يكون الشيء لا طعم له ، وتذهب الرائحة حتى يصير الشيء لا رائحة له ، ومساحته باقية بحسبها ، فصح يقينا أن المساحة للملون والذي له الرائحة والطعم والمجسة ، لا للّون ولا للطعام ولا للرائحة ولا للمجسة. وقد نجد جسما طويلا عريضا عميقا لا لون له وهو الهواء ساكنة ومتحركة ، وبالضرورة ندري أنه لو كان له لون لم يزد ذلك في مساحته شيئا.
قال أبو محمد : فإن بلغ الجهل بصاحبه إلى أن يقول ليس الهواء جسما سألناه عما في داخل الزّق المنفوخ ما هو؟ وعما يلقى الذي يجري فرسا جوادا بوجهه وجسمه؟ فإنه لا شك في أنه جسم قوي متكسر محسوس.
وبرهان آخر : وهو أن كل أحد يدري أن الطول والعرض والعمق لو كان لكل واحد منهما طول وعرض وعمق لاحتاج كل واحد منهما أيضا إلى طول آخر وعرض آخر وعمق آخر وهكذا مسلسلا إلى ما لا نهاية له ، وهذا باطل فبطل قول إبراهيم وهشام وبالله تعالى التوفيق.
وأما قول ضرار : إن الأجسام مركبة من الأعراض ، فقول فاسد جدّا لأن الأعراض قد صحّ كما ذكرنا أنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا تقوم بنفسها ، وصح أن الأجسام ذات أطوال وعروض وأعماق قائمة بأنفسها ، ومن المحال أن يجتمع ما لا طول له ولا عرض ولا عمق مع مثله فيقوم منها ما له طول وعرض وعمق ، وإنما غلط فيها من توهم أن الأجسام مركبة من السطوح وأن السطوح مركبة من الخطوط ، والخطوط مركبة من النقط.
قال أبو محمد : وهذا خطأ على كل حال لأن السطوح المطلقة إنما هي تناهي الجسم وانقطاع تماديه من أوسع جهاته وعدم امتداده فقط ، وأما الخطوط المطلقة فإنما هي تناهي جهة السطح وانقطاع تماديها ، وأما النقط فهي تناهي جهات الجسم من أحد نهاياته كطرف السكين ونحوه. فكل هذه الأبعاد إنما هي عدم التمادي ومن المحال أن يجتمع عدم فيقوم منه موجود. وأما السطوح المجسمة والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فإنما هي أبعاض الجسم وأجزاؤه ، ولا تكون الأجزاء أجزاء إلا بعد القسمة فقط على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.