والآن بعد بيان بطلان ما ذهبوا إليه من دعوى المجاز. أتعرض لادعاء آخر من ادعاءاتهم حيث عمدوا إلى بعض آيات من القرآن الكريم مدعين أن فيها دلالة على صحة مذهبهم القائل : بأن الله جل وعلا بذاته فى كل مكان ومن تلك الآيات قول الله جل وعلا : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) (١). الآية. وقد أجمع المفسرون وعلماء الأمة (٢) قاطبة على أن المقصود بذلك أنه معهم بعلمه لا بذاته. وقد بين الإمام أحمد ذلك كما مر فى نقضه على الجهمية. وقد نقل الإجماع على هذا ابن عبد البر حيث يقول : أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا فى تأويل قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) هو على العرش وعلمه فى كل مكان ، وما خالفهم فى ذلك من يحتج بقوله (٣). اه.
يقول عثمان بن سعيد الدارمى بعد أن ذكر احتجاج هؤلاء بها : إنما يعنى أنه حاضر كل نجوى ، ومع كل أحد من فوق العرش بعلمه ، لأن علمه بهم محيط ، وبصره فيهم نافذ ، لا يحجبه شيء عن علمه وبصره ، ولا يتوارون منه بشيء وهو بكماله فوق العرش بائن من خلقه (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٤) أقرب إلى أحدهم من فوق العرش من حبل الوريد قادر على أن يكون له ذلك لأنه لا يبعد عنه شيء ولا تخفى عليه خافية ، فى السموات ولا فى الأرض فهو كذلك رابعهم وخامسهم وسادسهم ، لا أنه معهم بنفسه فى الأرض كما ادعيتم. وكذلك فسره العلماء (٥). اه.
ومن الآيات التى احتجوا بها أيضا قول الله جل وعلا : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٦) وقوله سبحانه وتعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ
__________________
(١) سورة المجادلة / ٧.
(٢) ممن يعتد بهم.
(٣) مجموع الفتاوى ٥ / ٨٧. وانظر : نفس المصدر ٥ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦.
(٤) سورة طه / ٧.
(٥) الرد على الجهمية ص : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ضمن عقائد السلف.
(٦) سورة طه / ٤٦.