وقال رحمهالله فى موضع آخر :
ولما تكلموا فى «حروف المعجم» صاروا بين قولين طائفة فرقت بين المتماثلين فقالت الحرف حرفان هذا قديم وهذا مخلوق ... فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا هذا مخالفة للحس والعقل فإن حقيقة هذا الحرف هى حقيقة هذا الحرف وقالوا الحرف حرف واحد ... وذكر القاضى يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين. وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له أن سرى السقطى قال : لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أومر فقال أحمد : هذا كفر. وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله : كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق ، وبقوله : لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن كما لا تتم بغيره من كلام الناس.
وبقول أحمد لأحمد بن الحسن الترمذي : ألست مخلوقا قال بلى. قال : أليس كل شيء منك مخلوقا؟ قال : بلى. قال فكلامك منك وهو مخلوق (١).
قلت : الّذي قاله أحمد فى هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضا وليس فى كلامه تناقض ، وهو أنكره على من قال : إن الله خلق الحروف ، فإن من قال إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله : إن الله لم يتكلم بقرآن عربى وأن القرآن العربى مخلوق ، ونص أحمد أيضا على أن كلام الآدميين مخلوق ، ولم يجعل منه شيئا غير مخلوق ، وكل هذا صحيح والسرى إنما ذكر ذلك عن بكر بن خنيس (٢) العابد فكان مقصودهما بذلك : أن الّذي لا يعبد الله إلا بأمره هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله واستشهدا على ذلك بما بلغهما أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف ... وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة فى شيء ... وأحمد أنكر قول القائل إن الله لما خلق الحروف وروى عنه أنه قال : من قال أن حرفا من حروف المعجم مخلوق فهو جهمى ، لأنه سلك طريقا إلى البدعة ، ومن قال إن ذلك مخلوق فقد قال إن القرآن مخلوق (٣).
__________________
(١) انظر ص : ٢٠٠.
(٢) صدوق له أغلاط أفرط فيه ابن حبان وفيه من الناحية الحديثية كلام كثير. تقريب ١ / ١٠٥ ، تهذيب ١ / ٨١.
(٣) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية ١٢ / ٨٣ ـ ٨٦.