كما نقل عن ذلك عن طائفة من متقدمى علماء الحديث ، كأبي حاتم وأبى زرعة وغيرهم. وامتنع بعضهم من القول بالتخليد (١).
وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة ، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم ، ثم إنهم يرون من الأعيان ، الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرا. فيتعارض عندهم الدليلان وحقيقة الأمر أنهم أصابهم فى ألفاظ العموم فى كلام الأئمة ما أصاب الأولين فى ألفاظ العموم فى نصوص الشارع. كلما رأوهم قالوا من قال كذا فهو كافر ، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفى فى حق المعين ، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين ، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة : الذين أطلقوا هذه العمومات ، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. فإن الإمام أحمد ـ مثلا ـ قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ، ونفى الصفات ، وامتحنوه وسائر علماء وقته ، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ، ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدى العدو بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية الولاة والقضاة وغيرهم : يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفى الصفات ، مثل القول بخلق القرآن ، ويحكمون فيه بحكمهم فى الكافر ، فلا يولونه ولاية ، ولا يفتكونه من عدو ، ولا يعطونه شيئا من بيت المال ، ولا يقبلون له شهادة ، ولا فتيا ، ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة ، والافتكاك من الأسر وغير ذلك فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ، ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه.
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم ، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها ، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.
__________________
(١) هناك كلام للشيخ موفق الدين ابن قدامة حول مسألة التخليد. انظره : فى ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب : ٤ / ١٥٤ ـ ١٥٧ ..