وكان عندنا صبيان يشتغلون عليه من حوران ، وكانوا يلعبون بعض الأوقات إذا خلوا ، فشكى بعض الجماعة إلى الشيخ أبي عمر. فقال : أخرجوهم من عندنا ، ثمّ قال : هؤلاء أصحاب الموفّق ، فاذكروهم له ، فقالوا له ، فقال : وهل يصنعون إلّا أنهم يلعبون؟ هم صبيان لا بدّ لهم من اللّعب إذا اجتمعوا ، وإنّكم كنتم مثلهم. وكان بعض الأوقات يرانا نلعب فلا ينكر علينا.
ولقد شاورته في أشياء متعدّدة ، فيشير عليّ بشيء ، فأراه بعد كما قال. وكم قد جرى على أصحابنا من غمّ وضيق صدر من جهة السلاطين واختلافهم ، فإذا وصل الكلام إليه أشار بالرأي السّديد الّذي يراه ، فيكون في رأيه اليمن والبركة.
وكان أخوه الشيخ أبو عمر مع كونه الأكبر ، لا يكاد يعمل أمرا حتّى يشاوره.
سمعت الإمام الزّاهد أبا عبد الله محمد بن أبى الحسين اليونينيّ (١) ، قال : كنت بعض الأوقات ألازم القراءة وبعضها أتركها ، فقال لي الموفّق : يا فلان ، في صورة من يأتيك إبليس؟ قلت : في صورة أويس القرني ، قال : ما يقول لك؟ قلت : يقول لي : ما أحب أن أكون محدّثا ولا مفتيا ولا قاصّا ، في نفسي شغل عن النّاس ، فقال : والله مليح ما يقوله لك ، أفيقول لك : هذه ليلة السجود فتسجد إلى الصباح ، هذه ليلة البكاء فتبكي إلى الصباح؟ قلت : لا. قال : هذا مقصوده أنك تبطل العلم وتفوتك فضيلته ، وما يحصل لك فعل أويس. فبعد ذلك ، ما جاءني إبليس في هذا المعنى.
قال الضّياء : وكان لا ينافس أهل الدّنيا ، ولا يكاد أحد يسمعه يشكو ، وربّما كان أكثر حاجة من غيره. وكان إذا حصل عنده شيء من الدنيا فرّقه ولم يتركه.
وسمعت البهاء عبد الرحمن يقول : كان فيه من الشّجاعة ، كان يتقدّم إلى العدو ، ولقد أصابه على القدس جرح في كفّه ، ولقد رأيت أنا منه على قلعة
__________________
(١) انظر ترجمته ومصادرها في كتابنا : موسوعة علماء المسلمين في تاريخ لبنان الإسلامي ق ٢ ج ٣ / ٢٢٤ ـ ٢٢٩ رقم ٩٣٩.