بين يديه ، وانكساره له. وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك الخروج ، فقد أرضاه أعظم الرضاء دخوله إليها ذلك الدخول. وإن أسخطه قتلهم أولياءه وأحباءه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم ، فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ، ولا أنعم ولا ألذّ في قربه وجواره. وإن أسخطه معاصي عباده ، فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبره وكرمه وجوده ، والثناء عليه بذلك ، وحمده وتمجيده بهذه الأوصاف التي حمده بها ، وأثنى عليه بها أحبّ إليه وأرضى له من فوات تلك المعاصي ، وفوات هذه المحبوبات.
واعلم أنّ الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله ، فهو عقد نظام الخلق والأمر ، والرب تعالى له الحمد كله بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه ، فما خلق شيئا ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد ، فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره حمدا حقيقيا ، يتضمن محبته والرضا به وعنه والثناء عليه والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به ، فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده كما تقدم بيانه ، فكما أنه لا يكون إلا حميدا ، فلا يكون إلا حكيما ، فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته ، من لوازم ذاته ، ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها ، فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبرياءه وعظمته ، يوضحه :
الوجه الخامس والعشرون : أنه كما أنّ من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح ، فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث ، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون ، يحب أن يعوذ به العائذون. وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ، ويعوذوا بهم ، كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه :
يا من ألوذ به فيما أؤمّله |
|
ومن أعوذ به مما أحاذره |