أن لا يدخل أحدهما على الآخر وهلة ، فلا يتحمله ، بل بالتدريج قليلا قليلا إلى أن ينتهي منتهاه ، ويحصل المقصود به من غير ضرر يعم ، وهذا كله بأسباب : هي منشأ الحكم والمصالح ، فلا يبطل السبب بإثبات الحكمة ، ولا الحكمة بالسبب ، ولا السبب والحكمة بالمشيئة ، فيكون من الذين يبخس حظهم من العقل والسمع.
وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها ، فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب ، لأحرقت العالم وما فيه ، ولم يكن بدّ من ظهورها في الأحايين ، للحاجة إليها ، فجعلت مخزونة في الأجسام ، تورى عند الحاجة إليها ، فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها ، ثم تخبو إذا استغني عنها ، فجعلت على خلقة وتقدير وتدبير ، حصل به الاستمتاع بها والانتفاع ، مع السلامة من ضررها ، ثم في النار خلّة أخرى ، وهي أنها مما خصّ به الإنسان دون سائر الحيوان ، فإنّ الحيوانات لا تستعمل النار ، ولا تستمتع بها ، ولما اقتضت الحكمة الباهرة ذلك ، اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها ، فأعطيت من الشعور والأوبار ما يغنيها عنها ، وجعلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخبز ، ولما كانت الحاجة إليها شديدة ، جعل من الآلات والأسباب ما يتمكن به من إثارتها ، إذا شاء ، ومن إبطالها ، ومن حكمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس ، فيتمكنون بها من كثير حاجاتهم ، ولولاها لكان نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور ، وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى ، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣)) [الواقعة] أي : تذكر بنار الآخرة ، فيحترز منها ، ويستمتع بها المقوون ، وهم النازلون بالفيفاء ، وهي الأرض الخالية ، وخص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خبزهم وطبخهم ، حيث لا يجدون ما يشترونه ، فيغنيهم عن ما يصنعونه