وكانت طبيعة الكبد ومزاجها في ذلك تلي طبيعة المعدة ، وفعلها يلي فعلها ، وكذلك الأمعاء وباقي الأعضاء كالكبد للقلب في إعداد الغذاء ، والقلب للرئة ، والرئة للقلب في إعداد الهواء وإصلاحه ، فالأعضاء الموجودة في الشخص إذا تأملتها ، وتأملت أفعالها ومنافعها وما تضمنه كل واحد منها من حكمة ، اختصت به ، كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص بذلك الموضع المعيّن ، علمت علما يقينا أن ذلك صادر عن خالق واحد ومدبّر واحد وحكيم واحد ، فانتقل من هذا إلى أشخاص العالم شخصا شخصا من النوع الإنساني ، تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الأفراد الكثيرة ، قد نفعت بعضهم ببعض ، وأعانت بعضهم ببعض ، حرّاثا لزارع ، وزرّاعا لحاصد ، وحائكا لخياط ، وخياطا لنجار ، ونجارا لبنّاء ، فهذا يعين هذا بيده ، وهذا برجله ، وهذا يعينه بعينه ، وهذا بأذنه ، وهذا بلسانه ، وهذا بماله ، وإذ لا يقدر أحدهم على جميع مصالحه ، ولا يقوم بحاجاته ، ولا توجد في كلّ واحد منهم جميع خواص نوعه ، فهم بأشخاصهم الكثيرة كإنسان واحد ، يقوم بعضه بمصالح بعض ، قد كمل خواص الإنسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه ، فإن الواحد منهم لا يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء ، فجعل ذلك في النوع الإنساني بجملته.
والله سبحانه قد فرّق كمالات النوع في أشخاصه ، وجعل لكل شخص منها ما هو مستعدّ قابل له ، بحيث لو قبل أكثر من ذلك لأعطاه ، فإنه جواد لذاته ، قد فاض جوده وخيره على العالم كله ، وفضل عنه أضعاف ما فاض عليه ، فهو يفيضه على تعاقب الآنات أبدا.
وكذلك يفضل في الجنة فضل عن أهلها ، فينشئ لها خلقا يسكنهم فضلها ، وإنما يتخصص فضله بحسب استعداد العوامل والمعدات ، وذلك بمشيئته وحكمته ، فهو الذي أوجدها ، وهو الذي أعدّها ، وهو الذي أمدها ،