أصل
قد دريت أن كلّ ما يوجد في هذا العالم فقد قدّر بهيئته وزمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده ، وقد ثبت أن الله سبحانه قادر على جميع الممكنات ، ولم يخرج شيء من الأشياء عن مصلحته وعلمه وقدرته وإيجاده ، بواسطة ، أو بغير واسطة ، وإلّا لم يصلح لمبدئية الكل ، فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشرّ ، والنفع والضرّ ، وسائر المتقابلات كلها منتهية إلى قدرته ، وتأثيره ، وعلمه ، وإرادته ، ومشيئته ، إمّا بالذات ، أو بالعرض.
فأعمالنا وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه وقدره ، وهي واجبة الصدور منّا بذلك ، ولكن بتوسّط أسباب وعلل من إدراكاتنا وإراداتنا وحركاتنا وسكناتنا ، وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا ، الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا.
فاجتماع تلك الأمور الّتي هي الأسباب والشرائط مع ارتفاع الموانع علّة تامّة يجب عندها وجود ذلك الأمر المدبّر ، والمقضي المقدّر ، وعند تخلّف شيء منها ، أو حصول مانع ، بقي وجوده في حيز الامتناع ، ويكون ممكنا وقوعيّا بالقياس إلى كلّ واحد من الأسباب الكونية.
ولمّا كان من جملة الأسباب وخصوصا القريبة منّا إرادتنا وتفكّرنا وتخيّلنا ، وبالجملة ما يختار به أحد طرفي الفعل والترك ، فالفعل اختياريّ لنا ، فإنّ الله أعطانا القوّة والقدرة والاستطاعة ليبلونا أيّنا أحسن عملا ، مع إحاطة علمه ، فوجوبه لا ينافي إمكانه ، واضطراريّته لا تدافع كونه اختياريا.