ثمّ استعرضه القرآن ، فقرأه لهم في أربعة أيّام ، وركب حصانا وساقه ، فتعجّبوا وعدّوا ذلك آية ، وصحّ لابن تومرت بذلك ما أطواه على نفوس سليمة لا يعرفون بواطن الأمور ، فتحقّق تصديقهم إيّاه. فقام خطيبا وقال : قال الله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (١) فقال : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (٢). وهذا البشير مطّلع على الأنفس محدّث ، والنّبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنّ في أمّتي محدّثين. وإنّ عمر منهم» (٣).
وقد صحبنا أقوام أطلعه الله على سرّهم ونفاقهم ، ولا بدّ من النّظر فيهم ، ويتمّم العدل فيهم.
ثمّ نودي في جبال المصامدة : من كان مطيعا للإمام فليقبل. فكانوا يأتون قبائل قبائل ، فيعرضون عليه ، فيخرجون قوما على يمينه ، ويعدّهم من أهل الجنّة ، وقوما على يساره ، ويقول : هؤلاء شاكّون في الأمر. حتّى كان يؤتى بالرجل فيقول : ردّوا هذا على اليمين ، فإنّه تائب ، وقد كان قبل كافرا ، ثمّ أحدث البارحة توبة ، فيعترف بما أخبر به. واتّفقت له فيهم عجائب.
وكان يطلق أهل اليسار وهم يعلمون أنّ مآلهم إلى القتل ، فلا يفرّ منهم أحد. وكان إذا اجتمع منهم كثير قتلهم قراباتهم ، يقتل الأب ابنه ، والأخ أخاه ، وابن العمّ ابن العمّ. فالّذي صحّ عندي أنّه قتل منهم سبعون ألفا على هذه الصّفة ، ويسمّونها التّمييز.
ولمّا كمل التّمييز وجّه جموعه مع البشير نحو أغمات ، فالتقوا المرابطين فهزموهم ، وقتل خلق من المصامدة لكونهم ثبتوا ، وجرح عمر الهنتانيّ جراحات ، فحملوه على أعناقهم وهو كالميت ، لا ينبض له عرق. فقال لهم البشير : إنّه لا يموت حتّى يفتح البلاد ، ويغزو في الأندلس. وبعد مدّة من استماتته فتح عينيه ، فزادهم ذلك إيمانا بأمرهم. ولمّا أتوا عزّاهم ابن تومرت وقال : يوم بيوم ، وكذلك حرب الرّسل.
__________________
(١) سورة الأنفال ، الآية ٣٧.
(٢) سورة آل عمران ، الآية ١١٠.
(٣) أخرجه البخاري ٧ / ٤٢ (٣٦٨٩) في فضائل أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم ، باب مناقب عمر ، من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدّثون ، فإن يك من أمّتي أحد فإنه عمر». وأخرجه مسلم (٢٣٩٨) ، والترمذي (٣٦٩٤) من حديث عائشة.