وبلغ الملك سفرهم ، فسرّ بذلك.
وفشا مع أهل الجبل بوصول ابن تومرت ، فجاءوه من النّواحي يتبرّكون به ، وكان كلّ من أتاه استدناه ، وعرض عليه ما في نفسه من الخروج ، فإن أجابه أضافه إلى خواصّه ، وإن خالفه أعرض عنه.
وكان يستميل الشّباب والأغمار ، وكان ذوو الحلم والعقل من أهاليهم ينهونهم ويحذّرونهم من اتّباعه خوفا عليهم من الملك ، فكان لا يتمّ له مع ذلك حال. وطالت المدّة ، وكثرت أتباعه من أهل جبال درن ، وهو جبل لا يفارقه الثّلج ، وطريقه ضيّق وعسر.
قال اليسع بن حزم : لا أعلم مدينة أحصن من تينمل (١) ، لأنّها بين جبلين ، ولا يسع الطّريق إليها إلّا الفارس ، وقد ينزل عن فرسه في أماكن صعبة ، وفيها مواضع لا يعبر فيها إلّا على خشب ، فإذا أزيلت خشبة لم يمرّ أحد. وهذه الطّريق مسافة يوم. فأخذ أصحابه يغيرون على النّواحي سبيا وقتلا ، وتقوّوا وكثروا. ثمّ إنّه غدر بأهل تينمل الّذين آووه ونصروه ، وأمر أصحابه ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، قاتله الله. فقال له الفقيه الإفريقيّ ، وهو أحد العشرة ، عن ما فعل بأهل تينمل (١) : هؤلاء قوم أكرمونا وأنزلونا دورهم قتلتهم؟ فقال لأصحابه : هذا شكّ في عصمتي ، خذوه فاقتلوه. فقتلوه ، وعلّقوه على جذع.
قال : وكلّ ما أذكره من حال المصامدة فمنه ما شاهدته ، ومنه ما أخذته بنقل التّواتر.
وكان في وصيّته إلى قوم إذا ظفروا بمرابط أو أحد من تلمسان أنّ يحرّقوه.
فلمّا كان في عام تسعة عشر خرج إليهم يوما ، فقال : تعلمون أن البشير ، الّذي هو الونشريسيّ ، إنّه أميّ لا يقرأ ولا يكتب وإنّه لا يثبت على دابّة ، وقد جعله الله مبشّرا لكم مطّلعا على أسراركم ، وهو آية لكم ، فإنّه حفظ القرآن ، وتعلّم الركوب.
__________________
(١) في وفيات الأعيان ١ / ٥٢ «تين مل». وقال : بكسر التاء المثنّاة من فوقها وسكون الياء المثنّاة من تحتها وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشدّدة (٥ / ٥٥).