وجاور بمكة ، وحصّل طرفا جيّدا من العلم. وكان متورّعا. متنسّكا ، مهيبا ، متقشّفا ، مخشوشنا ، أمّارا بالمعروف ، كثير الإطراق ، متعبّدا ، يبتسم إلى من لقيه ، ولا يصحبه من الدّنيا إلّا عصاة وركوة.
وكان شجاعا ، جريئا ، عاقلا ، بعيد الغور ، فصيحا في العربيّ ، قد طبع على النّهي عن المنكر ، متلذّذا به ، متحمّلا المشقّة والأذى فيه. أوذي بمكّة لذلك ، فخرج إلى مصر ، وبالغ في الإنكار ، فزادوا في أذاه وطرد.
وكان إذا خاف من البطش وإيقاع (١) الفعل به خلّط في كلامه ليظنّوه مجنونا ، فخرج إلى الإسكندريّة ، فأقام بها مدّة. ثمّ ركب البحر إلى بلاده.
وكان قد رأى في منامه وهو بالمشرق كأنّه قد شرب ماء البحر جميعه كرّتين ، فلمّا ركب السّفينة شرع ينكر ، وألزمهم بالصّلاة والتّلاوة ، فلمّا انتهى إلى المهديّة ، وصاحبها يومئذ يحيى بن تميم الصّنهاجيّ ، وذلك في سنة خمس وخمسمائة ، نزل بها في مسجد مغلق على الطّريق. وكان يجلس في طاقته ، فلا يرى منكرا من آلة الملاهي أو أواني الخمور إلّا نزل وكسرها. فتسامع به النّاس ، وجاءوا إليه ، وقرءوا عليه كتبا في أصول الدّيانة ، وبلغ خبره الأمير يحيى ، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء ، فلمّا رأى سمته وسمع كلامه أكرمه ، وسأله الدّعاء ، فقال له : أصلحك الله لرعيّتك.
ثمّ نزح عن البلد إلى بجّاية ، فأقام بها ينكر كدأبه ، فأخرج منها إلى قرية ملالة ، فوجد بها عبد المؤمن بن عليّ القيسيّ ، فيقال : إنّ ابن تومرت كان قد وقع بكتاب فيه صفة عبد المؤمن ، وصفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى من ذرّية النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، يدعو إلى الله يكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب ، يسمّى ت ي ن م ل (٢) ، ويجاوز وقته المائة الخامسة. فوقع في ذهنه أنّه هو. وأخذ يتطلّب صفة عبد المؤمن ، فبلغ إلى أن رأى في الطّريق شابّا قد بلغ أشدّه على الصّفة الّتي معه ، فقال : يا شابّ ما اسمك؟ قال : عبد المؤمن.
فقال : الله أكبر ، أنت بغيتي ، فأين مقصدك؟
__________________
(١) في الأصل : «والإيقاع».
(٢) كذا بالأصل. وفي عيون التواريخ ١٢ / ١٠٨ «ت ي ن م لام». وسيأتي اسم البد : تين مل.