المتين ، والعقل الرصين ، يدّعي أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه ، وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك ، ووصل إلى مقام الملك وقال : ما سمعت شيئا قط ألذ من حركاتها ، ولا رأيت أبهى من صورها وهيئاتها.
قوله في الإلهيات :
قال : إن الباري تعالى واحد لا كالآحاد (١) ، ولا يدخل في العدد ، ولا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس ، فلا الفكر العقلي يدركه ، ولا المنطق النفسي يصفه ، فهو فوق الصفات الروحانية ، غير مدرك من نحو ذاته ، وإنما يدرك بآثاره وصنائعه وأفعاله وكل عالم من العوالم يدركه بقدر الآثار التي تظهر فيه صنعته ، فينعته ويصفه بذلك القدر الذي يخصه من صنعته ، فالموجودات في العالم الروحاني قد خصت بآثار خاصة روحانية فتنعته من حيث تلك الآثار ، والموجودات في العالم الجسماني قد خصّت بآثار خاصة جسمانية فتنعته من حيث تلك الآثار ، ولا نشك أن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها. فكل يصفه من نحو ذاته ، ويقدسه عن خصائص صفاته.
ثم قال : الوحدة تنقسم إلى وحدة غير مستفادة من الغير ، وهي وحدة الباري تعالى وحدة الإحاطة بكل شيء وحدة الحكم على كل شيء ، وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها ، وإلى وحدة مستفادة من الغير ، وذلك وحدة المخلوقات.
__________________
(١) وقد جاء في تاريخ الفلسفة اليونانية : «لم تصل إلينا نصوص صريحة عن عقيدة الفيثاغوريين ، في الألوهية ، أما ما يذكر من أنهم كانوا يضعون الواحد فوق الأعداد والموجودات ويجعلونه مصدرها جميعا فتأويل أفلاطوني. وكل ما يمكن أن يقال أنهم طهروا الشرك من أدرانه. ونزهوا الآلهة عما ألحقت بهم المخيلة العامة من نقائص ، وذلك بتأويل الأساطير تأويلا مجازيا ، وفي ترجمة مشاهير الفلاسفة ، أن فيثاغورس كان يحث تلامذته على التمسك بطاعة الإله وعبادته كما ينبغي». (انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢٤).