ثم استدل بالأفول : الزوال ، والتغير والانتقال ؛ على أنه لا يصلح أن يكون ربا إلها. فإن الإله القديم لا يتغير ، وإذا تغير احتاج إلى مغير ، هذا لو اعتقدتموه ربا قديما ، وإلها أزليا. ولو اعتقدتموه واسطة ، وقبلة ، وشفيعا ، ووسيلة. فإن الأفول ، الزوال ، يخرجه أيضا عن حدّ الكمال. وعن هذا ما استدل عليهم بالطلوع ، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول. فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لما عراهم من التحير بالأفول. فأتاهم الخليل عليهالسلام من حيث تحيرهم ، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته ، وذلك أبلغ في الاحتجاج.
ثم لما (رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي* فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (١) فيا عجبا ممن لا يعرف ربا. كيف يقول : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ، ونهاية المعرفة. والواصل إلى الغاية والنهاية ، كيف يكون في مدارج البداية؟!.
دع هذا كله خلف قاف (٢) ، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف. فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج ، وأوضح المناهج ، وعن هذا قال (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي* هذا أَكْبَرُ) (٣) لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك ، وهو رب الأرباب ، الذي يقتبسون منه الأنوار ، ويقبلون منه الآثار (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤).
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٧٧.
(٢) قاف مذكور في القرآن في قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وقد ذهب المفسرون إلى أنه الجبل المحيط بالأرض. قالوا : وهو من زبرجدة خضراء وإن خضرة السماء من خضرته. (انظر معجم البلدان ٧ : ١٥).
(٣) سورة الأنعام : الآية ٧٨.
(٤) سورة الأنعام : الآيتان ٧٨ و ٧٩.