إحاطته وعلمه. وشقاوته بقدر سفاهته وجهله. وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة ، ووضعه هو المستعد لقبول تلك الشقاوة. وهؤلاء هم الفلاسفة الإلهيون. قالوا : الشرائع وأصحابها أمور مصلحية عامية. والحدود ، والأحكام ، والحلال ، والحرام أمور وضعية. وأصحاب الشرائع رجال لهم حكم عملية ، وربما يؤيدون من عند واهب الصور بإثبات أحكام ، ووضع حلال وحرام مصلحة للعباد ، وعمارة للبلاد. وما يخبرون عنه من الأمور الكائنة في حال من أحوال عالم الروحانيين من الملائكة والعرش ، والكرسي ، واللوح ، والقلم فإنما هي أمور معقولة لهم ؛ قد عبّروا عنها بصور خيالية جسمانية. وكذلك ما يخبرون به من أحوال المعاد ؛ من الجنة والنار مثل : قصور ، وأنهار ، وطيور ، وثمار في الجنة ، فترغيبات للعوام بما تميل إليه طباعهم. وسلاسل وأغلال ، وخزي ونكال في النار ، فترهيبات للعوام بما تنزجر عنه طباعهم. وإلا ففي العالم العلوي لا يتصور أشكال جسمانية ، وصور جرمانية.
وهذا أحسن ما يعتقدونه في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لست أعني بهم الذين أخذوا علومهم من مشكاة (١) النبوة ، وإنما أعني بهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأول دهرية وحشيشية ، وطبيعية (٢) ، وإلهية ، قد اغتروا بحكمهم ، واستقلوا بأهوائهم وبدعهم.
ثم يتلوهم ويقرب منهم قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، وربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيّد بالوحي ، إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم ، وما نفذوا إلى الآخر. وهؤلاء هم الصابئة الأولى ؛ الذين قالوا بعاذيمون ، وهرمس ، وهما : شيث وإدريس عليهماالسلام ، ولم يقولوا بغير هما من الأنبياء عليهمالسلام.
* * *
__________________
(١) المشكاة : كل كوّة ليست بنافذة ، وقوله تعالى : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) قال الزجاج : هي الكوّة.
(لسان العرب مادة شكا).
(٢) الطبيعية : نسبة إلى الطبيعيين ، وهم ينكرون الألوهية ، ويقولون بإثبات الطبائع للأجسام.