ولا تستبعدوا معاشر الصابئة تلقي الوحي على الوجه المذكور (١) ، ونزول الملك على النسق المعقود. وعندكم أن هرمس العظيم صعد إلى العالم الروحاني فانخرط في سلكهم. فإذا تصور صعود البشر ، فلم لا يتصور نزول الملك؟ وإذا تحقق أنه خلع لباس البشرية ، فلم لا يجوز أن يلبس الملك لباس البشرية؟ فالحنيفية إثبات الكمال في هذا اللباس ؛ أعني لباس الناس. والصبوة إثبات الكمال في خلع كل لباس. ثم لا يتطرق ذلك لهم حتى يثبتوا لباس الهياكل أولا ، ثم لباس الأشخاص والأوثان ثانيا. ولقد قال لهم رأس الحنفاء متبرئا عن الهياكل والأشخاص (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٢).
* * *
وأما الثاني : فهو الصعود من حاجة الناس إلى إثبات أمر الباري تعالى. قال المتكلم الحنيف : لما كان نوع الإنسان محتاجا إلى اجتماع على نظام ، وذلك الاجتماع لن يتحقق إلا بحدود وأحكام في حركاته ومعاملاته ، يقف كل منهم عند حده المقدر له لا يتعداه ، وجب أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يبين فيه أحكام الله تعالى في الحركات ، وحدوده في المعاملات. فيرتفع به الاختلاف والفرقة ، ويحصل به الاجتماع والألفة. وهذا الاحتياج لما كان لازما لنوع الإنسان ضرورة ؛ يجب أن يكون المحتاج إليه قائما ضرورة ، بحيث تكون نسبته إليه نسبة الغني والفقير ، والمعطي والسائل ، والملك والرعية. فإن الناس لو كانوا كلهم ملوكا لم يكن ملك أصلا ؛ كما لو كانوا كلهم رعايا لم تكن رعية أصلا. ثم لا يبقى ذلك الشخص ببقاء الزمان ، وعمره لا يساوي عمر العالم ، فينوب منابه علماء أمته ، ويرث علمه أمناء شريعته ، فتبقى سنته
__________________
(١) من المسلم به أن من النفوس البشرية ما يكون لها من نقا الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحا على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعاليم ، ثم تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ما علمت ودعوة الناس إلى ما حملت على إبلاغه إليهم ، وأن يكون ذلك سنّة لله في كل أمة وفي كل زمان.
(٢) سورة الأنعام : الآيتان ٧٨ و ٧٩.