وأحكام النفوس غالبة ، وأحوالها ظاهرة للعقل ، وإلا فلو كانت الأجساد تبطل رأسا وتضمحل أصلا ، وتعود الأرواح إلى مبدئها الأول ، ما كان للاتصال بالأبدان ، والعمل بالمشاركة فائدة ولبطل تقدير الثواب والعقاب على فعل العباد ، ومن الدليل القاطع على ذلك أن النفوس الإنسانية في حال اتصالها بالبدن اكتسبت أخلاقا نفسانية صارت هيئات متمكنة فيها تمكن الملكات ، حتى قيل إنها نزلت منزلة الفصول اللازمة التي تميزها عن غيرها ، ولولاها لبطل التمييز ، وتلك الهيئات إنما حصلت بمشاركات من القوى الجسمانية ، بحيث لن يتصور وجودها إلا مع تلك المشاركة ، وتلك القوى لن تتصور إلا في أجسام مزاجية فإذا كانت النفوس لن تتصور إلا معها وهي المعينة المخصصة ، وتلك لن تتصور إلا مع الأجسام ، فلا بد من حشر الأجسام ، والمعاد بالأجسام (١).
قالت الصابئة :
طريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر ، وشرعنا معقول ، فإن قدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصا في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات راعوا فيها جوهرا وصورة ، وعلى أوقات وأحوال وهيئات أوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات : تختما ولباسا ، وتبخرا ودعاء وتعزيما ، فتقربوا إلى الروحانيات ، فتقربوا إلى رب الأرباب ، ومسبب الأسباب. وهو طريق مهيع (٢) وشرع مهيد (٣) ، لا يختلف بالأمصار والمدن ، ولا يتسخ بالأدوار والأكوار ، ونحن تلقينا
__________________
(١) القول في المعاد ، إما أن يكون هو المعاد الجسماني ، وهو قول أكثر المتكلمين ، وإما أن يكون هو المعاد الروحاني وهو قول أكثر الفلاسفة الإلهيين. أو كل منهما حق وصدق ، وهو قول أكثر المحققين أو الحق بطلانهما معا ، وهو قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين. والحق التوقف وهو المنقول عن جالينوس ، واعلم أن المعاد الجسماني أنكره أكثر الفلاسفة ، وجملة أهل الإسلام متفقون على إثباته ، إذ هو يتفق وما جاء في القرآن الكريم. (انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص ٢٨٧).
(٢) المهيع : الواضح الواسع البيّن ، وجمعه : مهايع ؛ وأنشد ابن بري :
إن الصنيعة لا تكون صنيعة |
|
حتى يصاب بها طريق مهيع |
(لسان العرب مادة هيع).
(٣) المهيد ، من هاده يهيده هيدا ، أي حرّكه وأصلحه. (لسان العرب مادة هيد).