حتى انفصلت عنها ، فصعدت إلى عالمها الأول ، والنزول هو النشأة الأولى ، والصعود هو النشأة الأخرى ، فعرف أنهم أصحاب الكمال ، لا أشخاص الرجال.
أجابت الحنفاء :
قالوا : من أين سلمتم هذا التسليم : أن المبادي هي الروحانيات؟ وأيّ برهان أقمتم؟ وقد نقل عن كثير من قدماء الحكماء أن المبادي هي الجسمانيات على اختلاف منهم في الأول. منها أنه نار ، أو هواء ، أو ماء ، أو أرض؟ واختلاف آخر : أنه مركب أو بسيط ، واختلاف آخر : أنه إنسان أو غيره؟ حتى صارت جماعة إلى إثبات أناس سرمديين.
ثم منهم من يقول إنهم كانوا كالظلال حول العرش ، ومنهم من يقول : إن الآخر وجودا من حيث الشخص في هذا العالم : هو الأول وجودا من حيث الروح في ذلك العالم وعليه خرج أن أول الموجودات نور محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان شخصه هو الآخر من جملة الأشخاص النبوية ؛ فروحه هو الأول من جملة الأرواح الربانية ، وإنما حضر هذا العالم ليخلص الأرواح المدنسة بالأوضار الطبيعية فيعيدها إلى مبدئها. وإذا كان هو المبدأ فهو المعاد أيضا ، فهو النعمة والنعيم ، وهو الرحمة وهو الرحيم.
قالوا : ونحن إذا أثبتنا أن الكمال في التركيب لا في البساطة والتحليل ، فيجب أن يكون المعاد بالأشخاص والأجساد ، لا بالنفوس والأرواح (١). والمعاد كمال لا محالة ، غير أن الفرق بين المبدأ والمعاد هو أن الأرواح في المبدأ مستورة بالأجساد ، وأحكام الأجساد غالبة ، وأحوالها ظاهرة للحس ، والأجساد في المعاد مغمورة بالأرواح ،
__________________
(١) لقد اختلفوا في مسألة ما يعاد من الأجساد والأرواح ، فقال المسلمون واليهود والسامرة بإعادة الأجساد والأرواح ، ورد الأجساد إلى الأرواح على التعيين برجوع كل روح إلى الجسد الذي كان فيه. وأنكرت الحلولية وأكثر النصارى إعادة الأجساد وزعموا أن الثواب والعقاب إنما يكون للأرواح. وزعم أهل التناسخ أن الإعادة إنما تكون بكرور الأرواح في أجساد مختلفة وذلك كله في الدنيا ، وإن كل روح أحسنت في قالبها أعيدت في قالب يتنعم فيه ، وكل روح أساءت إلى قالبها أعيدت في قالب يؤذيها. (انظر أصول الدين ص ٢٣٥).