لغاية الكثافة والظلمة ، والعالمان متقابلان ، والكمال للعلويّ لا للسفليّ ، والصفتان متقابلتان ، والفضيلة للنور لا للظلمة.
أجابت الحنفاء :
قالوا : لسنا نوافقكم أولا على أن الروحانيات كلها نورانية ، ولا نساعدكم ثانيا أن الشرف للعلو ، ولا نساهلكم أصلا أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء.
وعلينا بيان هذه المقدمات الثلاث ، فإن فيها فوائد كثيرة.
أما الأولى فقالوا : حكمتم على الروحانيات حكم التساوي ، وما اعتبرتم فيها التضاد والترتب. وإذا كانت الموجودات كلها ، روحانيها وجسمانيها ، على قضية التضاد والترتب ، فلم أغفلتم الحكمين هاهنا؟ وذلك أن من قال : الروحاني هو ما ليس بجسماني ؛ فقد أدخل جواهر الشياطين والأبالسة والأراكنة (١) في جملة الروحانيات ، وكذلك من أثبت الجن أثبتها روحانية لا جسمانية. ثم من الجن من هو مسلم ، ومنها من هو ظالم. ومن قال الروحاني هو المخلوق روحا ، فمن الأرواح ما هو خيّر ، ومنها ما هو شرير ، والأرواح الخبيثة أضداد الأرواح الطيبة ، فلا بد إذن من إثبات تضاد بين الجنسين ، وتنافر بين الطرفين فلم تسلم دعواكم أنها كلها نورانية.
بلى : وعندنا ، معاشر الحنفاء ، الروح هو الحاصل بأمر الباري تعالى ، الباقي على مقتضى أمره. فمن كان لأمره تعالى أطوع ، وبرسالات رسله أصدق : كانت الروحانية فيه أكثر والروح عليه أغلب. ومن كان لأمره تعالى أنكر ، وبشرائعه أكذب : كانت الشيطنة عليه أغلب.
__________________
ـ أَمْرِ رَبِّي) أي هو أمر عظيم ، وشأن كبير من أمر الله تعالى ، ترك تفصيله ليعرف الإنسان عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها ، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا ، كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز. (انظر الرازي ١ : ٣٠٨ ومجمع البيان ٣ : ٤٣٧).
(١) الأراكنة ، جمع أركون : وهو العظيم من الدهاقين.