المادة ؛ تشبثت بالطبيعة ، وصارت المادة شبكة لها ، فساح عليها الواهب الأول ، فبعث إليها واحدا من عالمه ، وألبسه لباس المادة ليخلص الصور عن الشبكة ، لا ليكون هو المتشبث بها ، المنغمس فيها ، المتوسخ بأوضارها (١) ، المتدنس بآثارها ، وإلى هذا المعنى أشار حكماء الهند رمزا بالحمامة المطوقة ، والحمامات الواقعة في الشبكة (٢).
ثم قالوا : معاشر الصابئة! أبدا تشنعون علينا بالمادة ولوازمها ، وما لم نفصل القول فيها لم ننج من تشنيعكم.
فنقول : النفوس البشرية وخصوصا النبوية من حيث إنها نفوس فهي مفارقة للمادة ، مشاركة لتلك النفوس الروحانية : إما مشاركة في النوع بحيث يكون التمييز بالأعراض والأمور العرضية ، وإما مشاركة في الجنس بحيث يكون الفصل بالأمور الذاتية ، ثم زادت على تلك النفوس باقترانها بالجسد أو بالمادة. والجسد لم ينتقص منها ، بل كملت هي لوازم الجسد ، وكملت بها ، حيث استفادت من الأمور الجسدانية ما تجسدت بها في ذلك العالم من العلوم الجزئية ، والأعمال الخلقية. والروحانيات فقدت هذه الأبدان لفقدان هذا الاقتران ، فكان الاقتران خيرا لا شرّ فيه ، وصلاحا لا فساد معه ، ونظاما لا ثبج (٣) له ، فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟.
قالت الصابئة :
الروحانيات : نورانية علوية لطيفة. والجسمانيات : ظلمانية ، سفلية ، كثيفة. فكيف يتساويان؟ والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء وصفاتها ، ومراكزها ومحالها. فعالم الروحانيات : العلو لغاية النور واللطافة (٤). وعالم الجسمانيات : السفل
__________________
(١) الأوضار ، الواحد وضر : وهو وسخ الدسم واللبن وغسالة السقاء.
(٢) وهي في كتاب كليلة ودمنة ، وهي مثل عن إخوان الصفاء كيف يبتدئ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض والعاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه.
(٣) الثبج : الاضطراب والنتوء ، ورجل ثبج : أي مضطرب الخلق.
(٤) فالعقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة ، والعلوي خير من السفلي ، واللطيف أكمل من الكثيف.
هذا كله إشارة إلى المادة ، وسبب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين ، ففي قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ ـ