فيجب أن يسبق الوجود طبيعة ما قابلة للوجود. وإما أن يقال : لم يكن معدوما يمكن أن يوجد بل أوجده عن لا شيء ، وأبدع وجوده ، من غير توهم شيء سبقه ، وهو ما يقوله الموحدون.
قال : فأول فعل فعله هو الجوهر ، إلا أن كونه جوهرا وقع بالحركة فوجب أن يكون بقاؤه جوهرا بالحركة ، وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون بذاته بمنزلة الوجود الأول لكن من التشبه بذلك الأول ، وكل حركة تكون فإما أن تكون على خط مستقيم وإما على الاستدارة ، فتحرك الجوهر بهاتين الحركتين. ولما كان وجود الجوهر بالحركة وجب أن يتحرك الجوهر في جميع الجهات التي يمكن فيها الحركة ، فيتحرك جميع الجوهر في جميع الجهات حركة مستقيمة على جميع الخطوط وهي ثلاثة : الطول ، والعرض ، والعمق ، إلا أنه لم يكن له أن يتحرك على هذه الخطوط بلا نهاية ، إذ ليس يمكن فيما هو بالفعل أن يكون بلا نهاية ، فتحرك الجوهر في هذه الأقطار الثلاثة حركة متناهية على خطوط مستقيمة ، وصار بذلك جسما ، وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة ، لأن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه. فعند ذلك انقسم الجوهر فتحرك بعضه على الاستدارة وسكن بعضه في الوسط. قال : وكل جسم يتحرك فيماسّ جسما ساكنا في طبيعته قبول التأثير منه حركه معه. وإذا حركه سخن ، وإذا سخن لطف وانحل وخف ، فكانت النار تلي الفلك. والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل ، فلا يتحرك لذلك بأجمعه لكن جزء منه ، فيسخن دون سخونة النار ، وهو الهواء ، والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك ، فهو بارد لسكونه ، وحار حرارة يسيرة بمجاورته الهواء ، ولذلك انحل قليلا ، وهو الماء. وأما الجسم الذي يلي الماء في الوسط فلأنه بعد في الغاية عن الفلك ، ولم يستفد من حركته شيئا ، ولا قبل منه تأثيرا : سكن وبرد ، وهذه هي الأرض. وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها من بعض اختلطت ، وتولد عنها أجسام مركبة ، وهذه هي الأجسام المحسوسة.