أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي ، والوجود السرمدي أتم وأظهر وأبقى وأبلغ. فبالحق ما كان الغائب طي الشاهد ، وبتصفح هذا الشاهد يصح ذلك الغائب.
وقال الشيخ اليوناني : النفس جوهر كريم شريف (١) ، يشبه دائرة قد دارت على مركزها ، غير أنها دائرة لا بعد لها ، ومركزها هو العقل ، وكذلك العقل هو كدائرة وقد استدارت على مركزها ، وهو الخير الأول المحض (٢) ، غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين ، لكل دائرة العقل لا تتحرك أبدا ، بل هي ساكنة ذاتية ، شبيهة بمركزها ، وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال ، على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق ، لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول. وأما دائرة العالم السفلي فإنها تدور حول النفس ، وإليها تشتاق. وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقا إلى النفس كشوق النفس إلى العقل ، وشوق العقل إلى الخير المحض الأول ، ولأن دائرة هذا العالم جرم ، والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه. فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها ويسكن عندها.
وقال : ليس للمبدع الأول تعالى صورة ولا حلية (٣) مثل صور الأشياء العالية ،
__________________
(١) ويرى أفلوطين أن النفس جوهر شريف يختلف عن الجسم ، وهو من عنصر أسمى من عنصر الجسم ، هبط إليه من العالم الأعلى ليتخذه مقرا له ردحا من الزمن ثم يغادره إلى عالمه الآخر ، وهو بهذا يخالف أرسطو الذي يرى أن النفس ليست إلا صورة بسيطة للجسم بدون عقل ولا إرادة ولا حساسية إلا وهي فيه ، ويخالف كذلك الاستونيسيين الذين يقولون بأن النفس مكونة من عنصر النار الذي تتكون منه كل العناصر الأخرى.
(٢) يرى أفلوطين أن أول شيء انبثق من الواحد هو العقل ، والعقل له وظيفتان : وظيفة التفكير في الله ، ووظيفة التفكير في نفسه. وقد خلع أفلوطين على هذا العقل شيئا من خصائص المثال الذي شرحه أفلاطون. (انظر قصة الفلسفة اليونانية ص ٣٣٦).
(٣) فهو قد رفع الإله المبدع الأول عن عدم استحداثه للعالم ، وعن جهله به ، ونزهه عن مرادفته الطبيعية وحلولية الجزئية ، وأحاطه بسياج من التعظيم والتقديس ، فقال : هو الوحدة المطلقة ، وهو الإله الذي يستحيل وصفه كما يستحيل حده.