الله ، حزينا ، فقال : هل رأيت ملكا قبلي فعل مثل هذا؟
فبكى القاضي وقال : والله ما ظننت أنّ الشّيطان يبلغ منك هذا مع ما آتاك الله من الفضل ، حتّى أنزلك منازل الكافرين.
فاقشعرّ من قوله ، وقال : وكيف أنزلني منازل الكافرين؟
قال : أليس الله يقول : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (١) وتلا الآية كلّها. فوجم عبد الرحمن ونكّس رأسه مليّا ودموعه تسيل على لحيته خشوعا لله وقال : جزاك الله خيرا ، فالّذي قلته الحقّ. وقام يستغفر الله ، وأمر بنقض السّقف الّذي للقبّة.
وكان كلفا بعمارة بلاده ، وإقامة معالمها ، وإنباط مياهها ، وتخليد الآثار الغريبة الدّالّة على قوة ملكه.
وقد استفرغ الوسع في إتقان قصور الزّهراء وزخرفتها. وقد أصابهم قحط ، وأراد النّاس الاستسقاء ، فجاء عبد الرحمن النّاصر رسول من القاضي منذر بن سعيد ، رحمهالله ، يحرّكه للخروج ، فقال الرسول لبعض الخدم : يا ليت شعري ما الّذي يصنعه الأمير؟
فقال : ما رأيته أخشع لله منه في يومنا هذا ، وأنّه منفرد بنفسه ، لابس أخشن ثيابه ، يبكي ويعترف بذنوبه ، وهو يقول : هذه ناصيتي بيدك ، أتراك تعذّب الرّعيّة من أجلي وأنت أحكم الحاكمين ، لن يفوتك شيء منّي.
فتهلّل وجه القاضي لمّا بلغه هذا ، وقال : يا غلام أحمل الممطر معك ، فقد أذن الله بسقيانا. إذا خشع جبّار الأرض رحم جبّار السّماء. فخرج ، وكان كما قال.
وكان عبد الرحمن يرجع إلى دين متين وحسن خلق. وكان فيه دعابة.
وكان مهيبا شجاعا صارما ، ولم يتسمّ أحد بأمير المؤمنين من أجداده.
إنّما يخطب لهم بالإمارة فقط. فلمّا كان سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، وبلغه
__________________
(١) سورة الزخرف ، الآية ٣٣.