وهو مثل مضروب لضلال الكافر وحيرته في حياته وما يعيش عليه من ظلمة الكفر وظلمة العمل السيىء والإعتقاد الباطل وظلمة الجهل بربه وما يريده منه ، وما أعده له قال تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ (١) فِي بَحْرٍ (٢) لُجِّيٍ) أي ذي لجج من الماء (يَغْشاهُ) أي يعلوه (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي من فوق الموج موج آخر (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ). والسحاب عادة مظلم فهي (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) لشدة الظلمة هذه حال الكافر في هذه الحياة الدنيا ، وهي ناتجة عن إعراضه عن ذكر ربه وتوغله في الشر والفساد وقوله تعالى : (وَمَنْ (٣) لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). أعلم تعالى عباده أن النور له وبيده فمن لم يطلبه منه حرمه وعاش في الظلمات والعياذ بالله.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله تعالى يسبح له من في السموات من الملائكة والأرض أي ومن (٤) في الأرض بلسان القال والحال معا والطير (٥) صافات أي باسطات أجنحتها تسبح الله تعالى بمعنى تنزهه بألفاظ التنزيه كسبحان الله. فإن امتنع المشركون أهل الظلمات من الإيمان بالله وعبادته وتوحيده فيها فإن الله تعالى يسبح له الخلق كله علويه وسفليه فالكافر وإن لم يسبح بلسانه فحاله (٦) تسبح فخلقه وتركيبه وأقواله وأعماله كلها تسبح الله خالقه فهي شاهدة على قدرة الله وعلمه وحكمته وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله تعالى : (كُلٌ) أي ممن في السموات والأرض والطير قد علم الله صلاته وتسبيحه كما أن كلا منهم قد علم صلاته لله تعالى وتسبيحه له (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي والله عليم بأفعال عباده ، ويجزيهم بها وهو على ذلك قدير إذ له ملك السموات والأرض وإليه المصير أي مصير كل شيء إليه تعالى فهو الذي يحكم فيه بحكمه العادل.
__________________
(١) قال الجرجاني الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار ، والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على الأعمال لأن الكفر أيضا من أعمالهم.
(٢) قيل : المراد بالظلمات : أعمال الكفار ، وبالبحر اللّجي : قلب الكافر ، وبالموج فوق الموج : ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، وبالسحاب : الرين والختم والطبع على قلبه ، ولذا قال أبيّ بن كعب : الكافر يتقلّب في خمس من الظلمات كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى ظلمة النار.
(٣) قيل : هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة أو في ربيعة نفسه إذ كلاهما ترهّب وطلب الدين في الجاهلية ولما جاء الإسلام كفرا به ولم يدخلا فيه وماتا كافرين.
(٤) أي : من الجن والإنس.
(٥) قرىء (وَالطَّيْرُ) بالرفع عطفا على من. وقرىء بالنصب على نحو : قمت وزيدا أي معه وهو أجود من الرفع ولو قلت قمت أنا وزيد لكان الرفع أجود.
(٦) تسبيح الحال هو ما يرى من علم الله تعالى وقدرته في آثار الصنعة في المخلوقات ، فالخالق المدبر وحده لا يكون إلّا إلها واحدا لا شريك له.