يتأخر عنه بحال حتى كأنه مربوط بعنقه. هذا معنى قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ (١) طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ). وقوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (٢) أي وفي يوم القيامة يخرج الله تعالى لكل انسان كتاب عمله فيلقاه منشورا أي مفتوحا أمامه. ويقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ) الذي أحصى لك عملك كله فلم يغادر منه صغيرة ولا كبيرة. وقوله (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي يكفيك نفسك حاسبا لأعمالك محصيا لها عليك أيها الانسان. وقوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ، أي بعد هذا الإعلام والبيان ينبغي أن يعلم أن من اهتدى اليوم فآمن بالله ورسوله ، ولقاء الله ، ووعده ووعيده وعمل صالحا وتخلّى عن الشرك والمعاصي فإنما عائد ذلك له ، هو الذي ينجو من العذاب ، ويسعد في دار السعادة ، وان من ضل طريق الهدى فكذب ولم يؤمن ، وأشرك ولم يوحّد ، وعصى ولم يطع فإن ذلك الضلال عائد عليه ، هو الذي يشقى به ويعذب في جهنم دار العذاب والشقاء. وقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ (٣) أُخْرى) الوزر الإثم والذنب والوازرة الحاملة له لتؤخذ به ومعنى الكلام ولا تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل كل نفس تتحمل مسئوليتها بنفسها (٤) ، والكلام تقرير لقوله : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها). وقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٥) أي لم يكن من شأن الله تعالى وهو العدل الرحيم أن يهلك أمة بعذاب إبادة واستئصال قبل أن يبعث فيها رسولا يعرفها بربها وبمحابه ومساخطه ، ويأمرها بفعل المحاب وترك المساخط التي هي الشرك والمعاصي. وقوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) أي أهل قرية (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أي أمرنا منعميها من أغنياء ورؤساء وأشراف من أهل الحل والعقد أمرناهم بطاعتنا بإقامة الشرع وأداء الفرائض والسنن واجتناب كبائر الإثم والفواحش فلم يستجيبوا للأمر ولا للنهي وهو معنى (فَفَسَقُوا (٦) فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي وجب عليها العذاب (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي أهلكناها إهلاكا كاملا ، وهذا الكلام بيان لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
__________________
(١) قال الزجّاج ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق ، وقال ابن عباس طائره : عمله وما قدّر عليه من خير وشر وهو ملازمه أينما كان.
(٢) قالوا في علة : نشره أنه تعجيل للبشرى بالحسنات والتوبيخ بالسيئات.
(٣) قيل في هذه الآية (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ ...) نزلت في الويد بن المغيرة إذ قال لأهل مكة اتبعوني واكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم. وإن لم تنزل فيه فهي شاملة لكل من يقول بقوله تضليلا وباطلا.
(٤) استدلت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على بطلان حديث ابن عمر إذ قال : إنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله ، وردّ اعتراضها بأنّ الميت إذا أوصى بالبكاء كان ذلك من وزره لا من وزر غيره ، وقد كانوا يوصون بذلك ، قال طرفة بن العبد :
إذا متّ فأتبعيني بما أنا أهله |
|
وشقّي عليّ الجيب يا بنت معبد |
ومن الجائز أن يعذّب وإن لم يوص ، إذا هو أهمل تأديب أهله.
(٥) أوّل المعتزلة الرسول (رَسُولاً) بالعقل ، وقالوا : العقل يحسن ويقبح ويبيح ويحظر ، وهو تأويل باطل لا يتفق مع اللغة ولا مع الشرع.
(٦) شاهده حديث زينب في الصحيح : (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث).