معنى الآيات :
لما أخبر تعالى في الآية السابقة انه عليم بذات الصدور ذكر في هذه مظاهر علمه وقدرته تقريرا لما تضمنته الآية السابقة فقال عزوجل (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (١) من إنسان يمشي على الأرض أو حيوان يمشي عليها زاحفا أو يمشي على رجلين أو أكثر أو يطير في السماء إلا وقد تكفّل الله برزقها أي بخلقه وإيجاده لها وبتعليمها كيف تطلبه وتحصل عليه ، وهو تعالى يعلم كذلك مستقرها أي مكان استقرار تلك الدابة في الأرض ، كما يعلم أيضا مستودعها بعد موتها إلى أن تبعث ليوم القيامة.
وقوله تعالى (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها قد دوّن قبل خلقه في كتاب المقادير اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى في الآية (٧) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي أوجد السموات السبع والأرض وما فيها في ظرف ستة أيام وجائز أن تكون كأيام الدنيا ، وجائز أن تكون كالأيام التي عنده وهي ألف سنة لقوله في سورة الحج (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وقوله (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٢) أي خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ، والعرش : سرير الملك ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه الحياة ، وقوله (عَلَى الْماءِ) إذ لم يكن أرض ولا سماء فلم يكن إلا الماء كالهواء. وقوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ (٣) عَمَلاً) أي خلقكم وخلق كل شيء لأجلكم ، ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن عملا أي بإخلاصه لله تعالى وحده وبفعله على نحو ما شرعه الله وبيّنه رسوله.
هذه مظاهر علمه تعالى وقدرته وبها استوجب العبادة وحده دون سواه وبها علم أنه لا يخفى عليه من أمر عباده شيء فكيف يحاول الجهلة إخفاء ما في صدورهم وما تقوم به جوارحهم بثني صدورهم واستغشاء ثيابهم. ألا ساء ما يعملون.
وقوله تعالى (وَلَئِنْ قُلْتَ) ـ أي أيها الرسول للمشركين ـ إنكم مبعوثون من بعد الموت ،
__________________
(١) (وَما مِنْ دَابَّةٍ) : ما : نافية ، ومن : مزيدة لتقوية النفي ليكون أكثر شمولا ، والتقدير : وما دابة في الأرض إلّا على الله رزقها أي : تكفّل الله برزقها فضلا منه ومنّة.
(٢) روى البخاري في حديث منه : قوله صلىاللهعليهوسلم : «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء».
(٣) قال مقاتل : أيكم اتقى لله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه أيكم أعمل بطاعة الله عزوجل ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم تلا (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : أيّكم أحسن عقلا وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله) ولو صحّ هذا الخبر لكان أتمّ وأجمع ، وقال الفضيل : أحسن العمل : أخلصه وأصوبه. وهو كما قال.