(١٣) أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليهالسلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثني عشر نقيبا قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم ، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ) (١) أي فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم (لَعَنَّاهُمْ) أي أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسّلام (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (٢) شديدة غليظة لا ترق لموعظة ، ولا تلين لقبول هدى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) فيقدمون ويأخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم ، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلم في التوراة (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وتركوا كثيرا مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها ، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة ، ولا تزال يا رسولنا (تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) (٣) أي على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) فإنهم لا يخونون كعبد الله بن سلام وغيره ، وبناء على هذا (فَاعْفُ) (٤) (عَنْهُمْ) فلا تؤاخذهم بالقتل ، (وَاصْفَحْ) عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٣) أما الآية الثانية (١٤) في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن النصارى (٥) وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيرا عنهم فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيرا مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه ، فكان أن أغرينا بينهم (٦) العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت
__________________
(١) الميم في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ) زائدة لتقوية الكلام وتأكيده ، ولفت النظر إليه ليتأمل وتفهم معانيه.
(٢) قرئت : «قسيّة» يقال عام قسيّ : أي شديد لا مطر فيه ، فالمادة مأخوذة من الشدة والقساوة.
(٣) لفظ خائنة : صالح لأن يكون صفة لطائفة محذوفة ، كما في التفسير ، وجائز أن تكون خائنة بمعنى خيانة كقولهم في القيلولة قائلة ، والخيانة هى المعصية يحدثونها كالكذب ، والفجور ، وأصل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد.
(٤) هذا حمل له صلىاللهعليهوسلم على مكارم الأخلاق لأنّ أذاهم كان منصبا عليه صلىاللهعليهوسلم فأمره بعدم مقابلة الأذى بالأذى بل بالعفو والصفح ليعظم مقامه أمامهم ويكبر في أعينهم.
(٥) التعبير بلفظ النصارى فيه إشارتان مهمتان. الأولى : أنّ النصرانية بدعة ابتدعوها وليست مما شرع الله تعالى فهو ينفي عنهم ذلك ، والثانية : بما أنهم راعوا في هذه البدعة نصرة الدين والحق وأهله أخذا من قول عيسى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟) فقال الحواريون : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) إذا لم لا تنصرون الحق وهو الإسلام وأهله وهم المسلمون؟.
(٦) من الجائز أن يقال : أغرينا بينهم العداوة والبغضاء هو عائد على اليهود والنصارى لأنّ العداوة بينهم ثابتة إلّا أنّ السياق هو في النصاري فطوائفهم متعددة ومتعادية متباغضة كما أخبر تعالى. والفرق بين العداوة والبغضاء أنّ العداوة من العدوان فقد ينتج عنها أذى بالضرب أو القتل. وأمّا البغضاء فهي من البغض القلبي فلا يتوقع من صحابها أذىّ.