ولذلك قيل لرابعة العدويّة (١) : «كيف رغبتك في الجنّة»؟ فقالت : «الجار ، ثمّ الدار».
فهؤلاء قوم شغلهم حبّ ربّ الدار عن الدار وزينتها ، بل عن كلّ شيء سواه حتّى عن أنفسهم ، ومثالهم مثال العاشق المستهتر بمعشوقه ، المستولي همّه بالنظر إلى وجهه أو الفكر فيه ، فإنّه في حال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحسّ بما يصيبه في بدنه. ويعبّر عن هذه الحالة بأنّه فنى عن نفسه ، ومعناه أنّه صار مستغرقا بغيره ، وصارت همومه همّا واحدا ، وهو محبوبه ، ولم يبق فيه متّسع لغير محبوبه حتّى يلتفت إليه ـ لا نفسه ولا غير نفسه ـ.
وهذه الحالة هي التي توصل في الآخرة إلى قرّة عين لا يتصوّر أن يخطر على قلب بشر ، كما لا يتصوّر أن يخطر صورة الألوان والألحان على قلب الأكمه والأصمّ ، إلى أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره ، فعند ذلك يدرك حالة يعلم قطعا أنّه لم يتصوّر أن يخطر بباله قبل ذلك صورته ؛ فالدنيا حجاب على التحقيق ، وبرفعه ينكشف الغطاء ، فعند ذلك يدرك ذوق الحياة الطبيعيّة : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [٢٩ / ٦٤]»(٢).
__________________
(١) ـ الرابعة بنت إسماعيل العدوية ، العابدة المشهورة ، توفيت سنة ثمانين ومائة (سير أعلام النبلاء : ٨ / ٢٤٣) وقيل سنة ١٣٥.
وقد أخرج الطبراني (المعجم الكبير : ١٠ / ٢٦٩ ، ح ٤٣٧٩) عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «التمسوا الجار قبل الدار ، والرفيق قبل الطريق».
(٢) ـ إلى هنا انتهى ما نقله المؤلف عن الإحياء.