قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) لأنهم لا يخافون ما فيها ، إذ لم يؤمنوا بكونها ، فهم يطلبون قيامها استبعادا واستهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ) أي : خائفون (مِنْها) لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيّون ، ولا يدرون ما يكون منهم (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي : أنها كائنة لا محالة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي : يخاصمون في كونها (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) حين لم يتفكّروا ، فيعلموا قدرة الله على إقامتها. (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) قد شرحنا معنى اسمه «اللطيف» في الأنعام (١) ، وفي عباده ها هنا قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون. والثاني : أنه عامّ في الكلّ. ولطفه بالفاجر : أنه لا يهلكه. (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي : يوسّع له الرّزق. قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) قال ابن قتيبة : أي عمل الآخرة ، يقال : فلان يحرث للدّنيا ، أي : يعمل لها ويجمع المال ؛ فالمعنى من أراد بعمله الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي : نضاعف له الحسنات. قال المفسّرون : من أراد العمل لله بما يرضيه ، أعانه الله على عبادته ، ومن أراد الدّنيا مؤثرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة ، يؤته منها ، وهو الذي قسم له ، (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لأنه كافر بها لم يعمل لها.
فصل : اتّفق العلماء على أنّ أول هذه الآية إلى «حرثه» محكم ، واختلفوا في باقيها على قولين : أحدهما : أنه منسوخ بقوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) (٢) ، وهذا قول جماعة منهم مقاتل. والثاني : أنّ الآيتين محكمتان متّفقتان في المعنى ، لأنه لم يقل في هذه الآية : نؤته مراده ، فعلم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد ، وهذا موافق لقوله : «لمن نريد» ، ويحقّق هذا أنّ لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر ، وذلك لا يدخله النّسخ ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة.
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤))
قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يعني كفّار مكّة ؛ والمعنى : ألهم آلهة (شَرَعُوا) أي ابتدعوا (لَهُمْ) دينا لم يأذن به الله؟! (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وهي : القضاء السّابق بأنّ الجزاء يكون في القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا بنزول العذاب على المكذّبين. والظالمون في هذه الآية والتي تليها : يراد بهم المشركون. والإشفاق : الخوف. والذي كسبوا : هو الكفر والتّكذيب ، (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) يعني جزاءه. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (ذلِكَ) يعني : ما تقدّم ذكره من الجنّات (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) قال أبو سليمان الدّمشقي : «ذلك» بمعنى : هذا الذي أخبرتكم به بشرى يبشّر الله بها عباده. وقرأ
__________________
(١) الأنعام : ١٠٣.
(٢) الإسراء : ١٨.