قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : ومثل ما ذكرنا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليفهموا ما فيه (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) يعني مكّة ، والمراد : أهلها ، (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي : وتنذرهم يوم الجمع ، وهو يوم القيامة ، يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين وأهل السموات والأرضين (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شكّ في هذا الجمع أنه كائن ، ثم بعد الجمع يتفرّقون ، وهو قوله : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). ثم ذكر سبب افتراقهم فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد ، كقوله : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (١) (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في دينه (وَالظَّالِمُونَ) وهم الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يدفع عنهم العذاب (وَلا نَصِيرٍ) يمنعهم منه. (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي بل اتّخذ الكافرون من دون الله (أَوْلِياءَ) يعني آلهة يتولّونهم (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) أي وليّ أوليائه ، فليتّخذوه وليّا دون الآلهة ؛ وقال ابن عباس : وليّك يا محمّد ووليّ من اتّبعك.
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))
قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : من أمر الدّين ؛ وقيل : بل هو عامّ (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) فيه قولان : أحدهما : علمه عند الله. والثاني : هو يحكم فيه. قال مقاتل : وذلك أنّ أهل مكّة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم ، فقال الله : أنا الذي أحكم فيه (ذلِكُمُ اللهُ) الذي يحكم بين المختلفين هو (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مهمّاتي (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في المعاد. (فاطِرُ السَّماواتِ) قد سبق بيانه (٢) ، (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من مثل خلقكم (أَزْواجاً) نساء (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أصنافا ذكورا وإناثا ، والمعنى أنه خلق لكم الذّكر والأنثى من الحيوان كلّه (يَذْرَؤُكُمْ) فيها ثلاثة أقوال : أحدها : يخلقكم ، قاله السّدّيّ. والثاني : يعيّشكم ، قاله مقاتل. والثالث : يكثّركم ، قاله الفرّاء. وفي قوله (فِيهِ) قولان : أحدهما : أنها على أصلها ، قاله الأكثرون. فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدّم ذكر الأزواج ، قاله زيد بن أسلم. فعلى هذا يكون المعنى : يخلقكم في بطون النّساء ، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة ، فقال : يخلقكم في الرّحم أو في الزّوج ؛ وقال ابن جرير : يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ؛ ويعيّشكم فيما جعل لكم من الأنعام.
__________________
(١) الأنعام : ٣٥.
(٢) الأنعام : ١٤.