وأدخلوا النّار مقتوا أنفسهم لسوء فعلهم ، فناداهم مناد : لمقت الله إيّاكم في الدّنيا : (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أكبر من مقتكم أنفسكم. ثم أخبر عمّا يقولون في النّار بقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) وهذا مثل قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) وقد فسّرناه هنالك. قوله تعالى : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) أي : من النّار إلى الدنيا لنعمل بالطاعة (مِنْ سَبِيلٍ)؟ وفي الكلام اختصار ، تقديره : فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك ؛ وقيل لهم : (ذلِكُمْ) يعني العذاب الذي نزل بهم (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) أي : إذا قيل «لا إله إلّا الله» أنكرتم ، وإن جعل له شريك آمنتم ، (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) فهو الذي حكم على المشركين بالنّار ، وقد بيّنّا في سورة البقرة (٢) معنى العليّ ، وفي الرّعد (٣) معنى الكبير.
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي : مصنوعاته التي تدلّ على وحدانيّته وقدرته ، والرّزق هاهنا : المطر ، سمّي رزقا ، لأنه سبب الأرزاق. و«يتذكّر» بمعنى يتّعظ ، و«ينيب» بمعنى يرجع إلى الطاعة. ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : موحّدين.
قوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) قال ابن عباس : يعني رافع السّموات ، وحكى الماوردي عن بعض المفسّرين قال : معناه : عظيم الصّفات. قوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ) أي : خالقه ومالكه. قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه القرآن. والثاني : النّبوة. والقولان مرويّان عن ابن عباس. وبالأول قال ابن زيد ، وبالثاني قال السّدّيّ. والثالث : الوحي قاله قتادة ، وإنما سمّي القرآن والوحي روحا ، لأنّ قوام الدّين به كما أنّ قوام البدن بالرّوح. والرابع : جبريل ، قاله الضّحّاك. والخامس : الرّحمة ، حكاه إبراهيم الحربي. قوله تعالى : (مِنْ أَمْرِهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من قضائه ، قاله ابن عباس. والثاني : بأمره ، قاله مقاتل. والثالث : من قوله تعالى ، ذكره الثّعلبي. قوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني الأنبياء. (لِيُنْذِرَ) في المشار إليه قولان : أحدهما : أنه الله عزوجل. والثاني : النبيّ الذي يوحى إليه. والمراد ب (يَوْمَ التَّلاقِ) : يوم القيامة وأثبت ياء «التلاقي» في الحالين ابن كثير ويعقوب ، وأبو جعفر وافقهما في الوصل ؛ والباقون بغير ياء في الحالين. وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال : أحدها : أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض ، رواه يوسف بن مهران عن ابن
__________________
غمرات النيران يتلظّون ، وذلك عند ما باشروا من عذاب الله ما لا قبل لأحد به ، فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض ، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة ، التي كانت سبب دخولهم إلى النار : فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان ، فيكفرون ، أشد من مقتكم ، أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.
(١) البقرة : ٢٨.
(٢) البقرة : ٢٥٥.
(٣) الرعد : ٩.