(أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ثم ابتدأ فقال عزوجل (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هذا قول ابن عباس ، ومسروق ، والفرّاء في آخرين. والثاني : أنها على نظمها ، والواو في «والشهداء» واو النّسق ، ثم في معناها قولان : أحدهما : أنّ كلّ مؤمن صدّيق شهيد ، قاله ابن مسعود ؛ ومجاهد. والثاني : أنها نزلت في قوم مخصوصين ، وهم ثمانية نفر سبقوا إلى الإسلام : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وحمزة بن عبد المطّلب ، وطلحة ، والزّبير ، وسعد ، وزيد ، قاله الضّحّاك. وفي الشهداء قولان : أحدهما : أنه جمع شاهد. ثم فيهم قولان : أحدهما : أنهم الأنبياء خاصّة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم الشاهدون عند ربّهم على أنفسهم بالإيمان بالله ، قاله مجاهد. والقول الثاني : أنه جمع شهيد ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل.
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))
قوله عزوجل : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني : الحياة في هذه الدّار (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي : غرور تنقضي عن قليل. وذهب بعض المفسّرين (١) إلى أنّ المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه ، لأنّ حياته تنقضي على لهو ولعب وتزيين الدنيا ، وتفاخر يفاخر قرناءه وجيرانه ، ويكاثرهم بالأموال والأولاد ، فيجمع من غير حلّه ، ويتطاول على أولياء الله بماله ، وخدمه ، وولده ، فيفنى عمره في هذه الأشياء ، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة. ثم بيّن لهذه الحياة شبها ، فقال : (كَمَثَلِ غَيْثٍ) يعني : مطرا (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) وهم الزّرّاع ، وسمّوا كفّارا ، لأنّ الزّارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره ، أي : غطّاه (نَباتُهُ) أي ما نبت من ذلك الغيث (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد خضرته وريّه (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي ينحطم ، وينكسر بعد يبسه. وشرح هذا المثل قد تقدّم في يونس عند قوله عزوجل (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) ، وفي الكهف عند قوله عزوجل : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٣). قوله عزوجل : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : لأعداء الله (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لأوليائه وأهل طاعته. وما
__________________
الكلام والخبر عن الذين آمنوا ، متناه عند قوله (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) وأن قوله (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر مبتدأ عن الشهداء.
(١) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٤ / ٣٧٠ : هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوزا شوهاء ، والإنسان كذلك يكون في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف ، بهيّ المنظر ، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وينفد بعض قواه ، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى قليل الحركة ، يعجزه الشيء اليسير ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) الروم : ٥٤ ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة ، وأن الآخرة كائنة لا محالة ، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخبر ، فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي : وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا : إما عذاب شديد ، وإما مغفرة من الله ورضوان.
(٢) يونس : ٢٤.
(٣) الكهف : ٤٥.