تابعا لكلّ شيء نفت عنه فعلا ينوى به الذّمّ ، فتقول : ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة ، وما هذا بسمين ولا كريم. قال ابن عباس : لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قوله عزوجل : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي : في الدّنيا (مُتْرَفِينَ) أي : متنعّمين في ترك أمر الله ، فشغلهم ترفهم عن الاعتبار والتعبّد. (وَكانُوا يُصِرُّونَ) أي : يقيمون (عَلَى الْحِنْثِ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الشّرك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضّحّاك ؛ وابن زيد. والثاني : الذّنب العظيم الذي لا يتوبون منه ، قاله مجاهد. وعن قتادة كالقولين. والثالث : أنه اليمين الغموس ، قاله الشّعبي. والرابع : الشّرك والكفر بالبعث ، قاله الزّجّاج. قوله عزوجل : (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) قال أبو عبيدة : الواو متحركة لأنها ليست بواو إنما هي «وآباؤنا» ، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتركت مفتوحة. وقرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، : «أو آباؤنا» بإسكان الواو. وقد سبق بيان ما لم نذكره هاهنا (١) إلى قوله : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قرأ أهل المدينة ، وعاصم ، وحمزة : «شرب الهيم» بضمّ الشين ؛ والباقون بفتحها .. وأكثر أهل نجد يقولون : شربا بالفتح ، أنشدني عامّتهم :
تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها |
|
من الشّواء ويكفي شربه الغمر (٢) |
وزعم الكسائيّ أنّ قوما من بني سعد بن تميم يقولون : «شرب الهيم» بالكسر. وقال الزّجّاج : «الشّرب» المصدر ، و«الشّرب» بالضمّ : الاسم. قال : وقد قيل : إنه مصدر أيضا. وفي «الهيم» قولان : أحدهما : الإبل العطاش ، رواه ابن أبي طلحة والعوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة. قال ابن قتيبة : هي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء ، يقال : بعير أهيم ، وناقة هيماء. والثاني : أنها الأرض الرّملة التي لا تروى من الماء ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا. قال أبو عبيدة : الهيم : ما لا يروى من رمل أو بعير.
قوله عزوجل : (هذا نُزُلُهُمْ) أي : رزقهم ، وروى عباس عن أبي عمرو : «نزلهم» بسكون الزاي ، أي رزقهم وطعامهم. وفي «الدّين» قولان قد ذكرناهما في الفاتحة (٣).
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢))
قوله عزوجل : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي أوجدناكم ولم تكونوا شيئا ، وأنتم تقرّون بهذا (فَلَوْ لا) أي : فهلّا (تُصَدِّقُونَ) بالبعث؟! ثم احتجّ على بعضهم بالقدرة على ابتدائهم فقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) قال الزّجّاج : أي : ما يكون منكم من المنيّ ، يقال : أمنى الرجل يمني ، ومنى يمني ، فيجوز على هذا «تمنون» بفتح التاء إن ثبتت به رواية. قوله عزوجل : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي تخلقون ما تمنون بشرا؟! وفيه تنبيه على شيئين : أحدهما : الامتهان : إذ خلق من الماء المهين بشرا سويّا. والثاني :
__________________
(١) هود : ١٠٣ والصافات : ٦٢ والأنعام : ٧٠.
(٢) البيت لأعشى باهلة ، كما في «جمهرة أشعار العرب» ٢٥٤ ، وفي «القاموس» : الحزة : ما قطع من اللحم طولا. والفلذ : كبد البعير. والغمور : قدح صغير والغمر : الماء الكثير.
(٣) الفاتحة : ٣.