(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))
قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ثم بيّنه فقال : (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) قال ابن قتيبة : أي : مختلفون ، يتنازعون ويتشاحّون فيه ، يقال : رجل شكس. وقال اليزيديّ : الشّكس من الرّجال : الضّيّق الخلق. قال المفسّرون : وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فإنّ الكافر يعبد آلهة شتّى ، فمثّله بعبد يملكه جماعة يتنافسون في خدمته ، ولا يقدر أن يبلغ رضاهم أجمعين ؛ والمؤمن يعبد الله وحده ، فمثّله بعبد لرجل واحد ، قد علم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه ، فهو في راحة من تشاكس الخلطاء فيه ، فذلك قوله تعالى : (سَلَماً لِرَجُلٍ). قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو إلّا عبد الوارث في غير رواية القزّاز ، وأبان عن عاصم : «ورجلا سالما» بألف وكسر اللام وبالنّصب والتنوين فيهما ؛ والمعنى : ورجلا خالصا لرجل قد سلّم له من غير منازع. ورواه عبد الوارث إلّا القزّاز كذلك ، إلّا أنه رفع الاسمين ، فقال : «ورجل سالم لرجل» ، وقرأ ابن أبي عبلة : «سلم لرجل» بكسر السين ورفع الميم. وقرأ الباقون : (وَرَجُلاً سَلَماً) بفتح السين واللام وبالنصب فيهما والتنوين. والسّلم ، بفتح السين واللام ، معناه الصّلح ، والسّلم ، بكسر السين مثله. قال الزّجّاج : من قرأ : «سلما» و«سلما» فهما مصدران وصف بهما ، فالمعنى ، ورجلا ذا سلّم لرجل وذا سلم لرجل ؛ فالمعنى : ذا سلم ؛ والسّلم : الصّلح ، والسّلم ، بكسر السين مثله. وقال ابن قتيبة : من قرأ «سلما لرجل» أراد : سلّم إليه فهو سلم له. وقال أبو عبيدة : السّلم والسّلم الصّلح.
قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) هذا استفهام معناه الإنكار ، أي : لا يستويان ، لأنّ الخالص لمالك واحد يستحقّ من معونته وإحسانه ما لا يستحقّه صاحب الشّركاء المتشاكسين. وقيل : لا يستويان في باب الرّاحة ، لأنّ هذا قد عرف الطريق إلى رضى مالكه ، وذاك متحيّر بين الشّركاء. قال ثعلب : وإنما قال : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) ولم يقل : مثلين ، لأنهما جميعا ضربا مثلا واحدا ، ومثله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (١) ، ولم يقل : آيتين ، لأنّ شأنهما واحد. وتمّ الكلام هاهنا ، ثم قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : له الحمد دون غيره من المعبودين (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) والمراد بالأكثر الكلّ. ثم أخبر نبيّه بما بعد هذا الكلام أنه يموت ، وأنّ الذين يكذّبون يموتون ، وأنهم يجتمعون للخصومة عند الله عزوجل ، المحقّ والمبطل ، والمظلوم والظالم (٢).
__________________
(١) المؤمنون : ٥٠.
(٢) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٤ / ٦٣ : وقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ، هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق عند موت الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى تحقق الناس موته ، مع قوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ومعنى هذه الآية : ستنقلون من هذه الدار لا محالة ، وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة ، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عزوجل فيفصل بينكم ، ويفتح بالحقّ وهو الفتاح العليم. فينجي المؤمنين المخلصين الموحّدين ، ويعذّب الكافرين الجاحدين المشركين المكذّبين ، ثم إن هذه الآية ، وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين ، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا ، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.