الإنسانية الذي لم ولن يتحقق لها على هذه الأرض؟ فماذا لو وجدت عالما آخر يتحقق لها فيه هذا الحلم البعيد المنال؟ وأي إنسان يزهد فى هذا النعيم إذا أتيح له ، ووجد السبيل إليه؟ ولا تمدن عينيك هنا إلى أولئك الذين يقال إنهم زهدوا فى نعيم الحياة المادية من الفلاسفة والحكماء ، والمتصوفة ، وغيرهم ممن عفّوا ، أو عافوا متعة الجسد ، وراحوا يعيشون على قوت أرواحهم ، وعرائس أفكارهم .. فهؤلاء جميعا ـ إن صدقت أحوالهم ـ إنما أقاموا لأنفسهم عالما من الوهم ، والخيال ، تتراقص فيه طيوف رؤاهم وأحلامهم ، بكل ما قصرت عنه أيديهم من متع مادية استبدّ بها غيرهم .. ومن زهد منهم فى تلك المتع ، وقد أتيحت له ـ فإنما لأنه استقصر حياته معها ، أو توقع فرارها من يده! ولو كان هذا النعيم دائما ، وكان لمن يعيش فيه ضمان بالخلود معه ، لكان الحكماء ، والفلاسفة ، والمتصوفة أكثر الناس طلبا ، وازدحاما على مورده ..
ومع هذا ، فإن ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها ، ليس هو كل ما فيها من نعيم ، وإنما ذلك هو معرض من معارضها ، وإشارة دالة على ما وراء هذا النعيم مما لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر .. إنه هو الجزء القليل الذي يمكن أن يقع فى مفهوم الناس ، وهم فى هذا العالم الدنيوي ، حتى يكون للجنة التي يوعدون بها تصور ، وحتى يكون لدعوتهم إليها استجابة .. ولو جاءتهم الجنة غير مألوفة لهم ، لما وقعت من أنفسهم موقعا ، ولما وجدت لها فى مشاعرهم ووجداناتهم مكانا ..
ولا يقال ـ كما قيل فعلا ـ إن هذا النعيم الأخروى ، هو نعيم جسدى ، يشبع أحلام الجوعى والمحرومين ، ويرضى مطالب البيئات الفقيرة