وإن القوم ليبلغون فى السفاهة غايتها ، ويركبون من الجهل أشرس مطاياه وألأمها .. إنهم كلما سمعوا صريخ النذير ، ازدادوا فرارا منه ، وقربا من موقع الخطر الذي يحذرهم منه .. وإنهم كلما سمعوا صريخ هذا النذير ، جعلوا أصابعهم فى آذانهم ، كأنما يسمعون منكرا ، يسدون عليه المنافذ أن يصل إلى آذانهم ، وإنهم لم يقفوا عند هذا ، بل غطّوا وجوههم : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي جعلوها غاشية تحجبهم عن أن ينظروا فى وجه هذا النذير ، حتى لا يروا منه أية إشارة تشير إليهم ، وتحذرهم من الخطر الزاحف عليهم ..!!
وفى قوله تعالى : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) إشارة إلى ما وقع فى نفوسهم من جفاء لهذا النذير ، وإلى ما أضمروا من عداوة له .. إنهم يتقونه كما يتقى الأطفال شبحا مخيفا يطلع عليهم فى أحلام اليقظة ، فلا يجدون سبيلا إلى الهرب منه ، إلا بحجز حواسهم عنه ، وإغلاق كل المنافذ التي بينهم وبينه ، من بصر أو سمع!
إنهم يغطّون وجوههم بثيابهم ، ويدخلون رءوسهم فى جيوبهم ، خوفا وهلعا من هذا النور الذي يطلع فى سماء ليلهم المظلم البهيم ..
وقوله تعالى :
* (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) ..
هو بيان للأسالبب المختلفة التي اتخذها نوح ، لينفذ بدعوته من هذه الحجب الصّفيقة التي أقامتها القوم على أسماعهم ، وأبصارهم .. فهو تارة يدعوهم جهارا ، صارخا صراخ من يتحدث إلى أصمّ لا يسمع ، حتى يخترق بصراخه العاصف ، هذا السد الذي أقاموه على آذانهم .. فلما لم تنفع هذه الوسيلة ، معهم ، أمسك لسانه ، وزمّ شفتيه ، حتى إذا اطمأن القوم إلى أنه قد كف