إليهم ملئوا لكل كأسه الذي يشرب منه ، ولم يجيئوا إليهم بها مملوءة جميعها مرة واحدة .. ومثل هذا قوله تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) (١٧ : الإنسان) وقوله سبحانه : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٢٣ : الطور).
قوله تعالى :
(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ)
أي لا يصيبهم من شرب هذه الخمر ما يصيب شاربى خمر الدنيا من صداع ، إذا جاوز الشارب قدرا معينا منها .. فهذه الخمر التي تقدّم لهؤلاء السابقين المقربين ، لا يصيبهم منها هذا الصداع مهما شربوا منها ، ومهما علّوا ونهلوا.
وقد ضمّن «يصدّعون» معنى الفعل «يصرفون» من غير أن يزايله المعنى الأصلى الذي له ، وهو الصداع .. والمعنى أنهم لا يصرفون عن هذه الخمر بسبب صداع يصيبهم منها .. وهذا إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.
وقوله تعالى : (وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا يستهلكون لذتهم فيها يشرب ما يشربون منها ، كما يحدث ذلك لشارب خمر الدنيا .. حيث تذهب لذة مدمنها بعد قدر محدود منها ، بل إن لذتهم باقية أبدا ، وإن ظلوا فى شرب دائم لا ينقطع. وهذا هو بعض الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. فإن نعيم الدنيا ـ أو ما يسمى نعيما ـ إذا ناله المريء وأخذ منه حاجته ، زهد فيه ، وأصبح أىّ قدر يناله منه بعد هذا ، مبعثا للألم ، بل وضربا من العذاب .. أما نعيم الجنة ، فإن لذته لا تنفد أبدا ، ولا تنقطع شهوة المتصل به على امتداد الأزمان والآباد .. بل إنه كلما ازداد تناولا للشىء تجددت له لذات جديدة معه ..
قوله تعالى :
(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) ..