وقوله تعالى :
(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا).
الجعل ، كما قلنا فى أكثر من موضع ، هو إضافة جديدة تدخل على أصل الشيء ، فهو من متعلقات الموجودات ، وليس له هو وجود ذاتى ..
فتوزّع الناس إلى شعوب وقبائل ، ليس أمرا ذاتيا ، تتغير به حقيقة الإنسانية فى الناس .. إنهم مهما اختلفوا شعوبا وأوطانا ، فإنهم إخوة قرابة ونسبا ، وقوله تعالى : (لِتَعارَفُوا) تعليل لهذا التقسيم الذي وقع فى محيط الناس ، فكانوا شعوبا وقبائل ، وذلك ليتعارفوا ، وليكون لهم فى مجتمع الشعب أو القبيلة ، تماسك وترابط ، لأنهم فى هذا المحيط الضيق ـ نسبيّا ـ أقدر على أن يتعارفوا ، ويتآخوا ، الأمر الذي لا يقع ـ إن وقع ـ إلا باهتا ، لا يكاد يحسّ ، لو أن الإنسان كان فردا فى الإنسانية كلها ..
فلما جعل الله سبحانه وتعالى لنا من أنفسنا أزواجا نسكن إليها ، وأولادا تقرّ بهم أعيننا ، وتصبّ فيهم روافد عواطفنا ـ جعل الله لنا المجتمعات التي ننتمى إليها ، والأمم التي نرتبط بالحياة معها ..
وكما أن الأسرة لا تعزلنا عن أمتنا ، ولا تقطعنا عن مجتمعنا ، كذلك ينبغى ألا تعزلنا أمتنا عن الأمم ، ولا يقطعنا مجتمعنا عن المجتمعات الأخرى ..
فالاختلاف الواقع بين الناس ، وتمايزهم شعوبا وأمما ، هو فى الواقع سبب تعارفهم ، وداعية إلى قيام هذه الوحدات الحية فى كيان المجتمع الإنسانى ، الممثلة فى الشعوب والأمم .. فهذه الوحدات هى التي غذّت مشاعر العصبية للقومية ، ووثقت من روابط الجماعة التي تضمها وحدة ، من وطن ، أو لغة ، أو دين ، فتعاونت ، وترابطت ، وصارت أشبه بالكيان الواحد.
وقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) هو استكمال لوجه القضية