وفى المرحلة الثالثة هذه ، يخلو العقل بنفسه ، ما شاء له أن يخلو ، فيعيد عرض الأمر فى هدوء ، ويقلب وجوهه فى سعة من الوقت ، وحرية من العمل .. وقد يظل هكذا زمنا يبلغ عمر الإنسان كله ، دون أن يصل إلى الرأى الذي يطمئن إليه ، وقد تطلع عليه شمس الحقيقة فى لحظة خاطفة ، وعلى غير انتظار!
هذا ، ويلاحظ ـ وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم ـ أن الآية الكريمة ، لم تذكر المرحلة الأولى وبدأت بالمرحلة الثانية ، وهى لقاء عقل الإنسان بعقل غيره ، ومقابلة تفكيره بتفكير غيره وذلك ، أن المرحلة الأولى ، هى مرحلة مشتركة فى الناس جميعا ، فإن أي إنسان عاقل ، لا يمكن أبدا أن تخلو نفسه من خواطر ، ووساوس ، عن التفكير فى «الإله» .. أما الذي هو غير واقع فى الناس جميعا ، فهو عرض هذه الخواطر والوساوس على عقول الآخرين .. فهناك كثير من الناس يعيشون مع ما يطرقهم من خواطر ووساوس ، دون أن يعرضوها على أحد ، بل يمسكون بها فى صدورهم حتى يموتوا بها ، تماما كما يمسك بعض المرضى ، بأمراضهم ، دون أن يطبّوا لها ، وأن يعرضوها على أهل الذكر والمعرفة بأدواء الأجسام وعللها ..
كما يلاحظ ـ وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم أيضا ـ أن الآية الكريمة حصرت التفكير فى دائرة الفرد نفسه ، ثم لم تتجاوز به أكثر من فرد وفرد .. وهذا يعنى أن العقل إنما يكون فى أحسن حالاته ، حين يفكر وحده ، أي حين ينفرد بالتفكير فيما تجمّع لديه من حصيلة من الأفكار والآراء ، يردّها إلى نفسه ، ويقلبها بين يديه .. فهذا الذي يحقق للعقل ذاتيته ، ويعطيه وجوده ، ويمكن له من سلطانه .. فإذا كان ولا بد من مشاركة أحد ، فليكن ذلك فى أضيق الحدود ، ومع عقل آخر ، هو أشبه بالمرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته .. أما التفكير الجماعى ، وخاصة فى أمر يتصل بالضمير ، كالإيمان بالله واليوم الآخر ، فإنه يشوش على العقل ،