وقوله تعالى : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) : .. المراد بالبلدة الطيبة كثرة خيرها ، ووفرة عطائها .. فهم فيها فى نعم كثيرة ، وخير موفور .. ومن تمام هذه النعم وذلك الخير ، أن المتفضل بهذا كله هو «ربّ غفور» .. يتجاوز عن السيئات ، ويقبل التائبين ، ويعفو عنهم .. وبهذا تطيب النعمة ، ويتّسع للإنسان مجال التمتع بها ، على خلاف ما لو كان ربّ هذه النعم ، يحاسب على الصغير والكبير ، ويأخذ أصحابها بكل ما اقترفوا ، فذلك مما يقيم الإنسان على حذر متصل وخوف دائم ، فلا يهنؤه ما بين يديه من نعم!
قوله تعالى :
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)
أي أنهم أعرضوا عن أمر ربهم ، بالأكل من هذا الرزق ، والحياة مع هذه النعم ، فى ظلّ من الإيمان بالله ، والحمد له .. فتنكروا لهذه النعم ، وجحدوا هذا الإحسان ، ونسوا ربهم ، ولم يرجوا له وقارا ، ولم يعملوا له حسابا .. فكان أن أخذهم الله بما يأخذ به الظالمين ، فأرسل عليهم سيلا عارما جارفا ، أتى على جنتيهم ، وأفسد كل صالحة فيها .. ثم أعقبهم جدبا وقحطا ، فأمسك الماء عنهم ، ونبت مكان هاتين الجنتين ما ينبت فى الأرض الجديب ، من خسيس النبات والشجر ، ومن ردىء الفاكهة والثمر ..
وفى مقابلة الجنتين الطيبتين ، بهذه الصورة الكئيبة لما تنبت الأرض ، وفى وصف هذه الصورة بالجنّتين ـ ما يكشف عن مدى هذا التحول الذي أصاب القوم فى حياتهم ، وعن الحسرة التي تملأ قلوبهم ، حين ينظرون إلى جنتيهم الذاهبتين ، ثم إلى هاتين الجنتين اللتين بين أيديهم .. فهذا هو ما يمكن أن يحصلوا عليه من جنات ، إن كان يصحّ أن يكون ما فى أيديهم مما يطلق عليه