قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ..
وهذه لفتة أخرى إلى قدرة العزيز الرحيم ، يرى فيها الإنسان نفسه ، لا في هذا الطين ، الذي ربما كانت كثافته حائلا بينه وبين نظره الكليل أن يرى وجوده فيه .. فهناك النطفة ، التي يعلم الإنسان ـ كل إنسان ـ عن يقين أنه ثمرتها ، وأنها البذرة التي جاء منها .. فأين تلك النطفة .. من هذا الإنسان؟ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ). (٥ ـ ٧ الطارق).
وفي وصف النطفة بأنها ماء مهين ، إشارة إلى أنها شىء رخيص مبتذل ، لا يرى فيها الإنسان شيئا ذابال ، فما هى إلا ماء مستقذر .. هكذا يبدو في ظاهر الأمر .. ولكن إذا نظر إليه نظرا متأملا متفحصا ، رأى أنه هو هذا الإنسان ، قد أجمل في هذه القطرة من الماء! ثم فصّل فكان هذا الخلق السّوىّ ، الذي توّج بتاج الخلافة من الله على هذه الأرض!
قوله تعالى :
(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).
وهذه أيضا لفتة أخرى ، يرى فيها الناظر إلى الإنسان في مسيرته من النطفة إلى الوجود البشرى ـ يرى كيف تحركت هذه النطفة ، وكيف نمت كما ينمو النبات ، حتى إذا بلغت في رحم الأمّ مرحلة محددة ، نفخ فيها الخالق من روحه ، فبعث فيها الحياة ، حتى إذا تم نضجها ، دفع بها الرحم إلى هذه الدنيا ، قطعة من لحم ، مصورة في هيئة بشر ، لا سمع ، ولا بصر ، ولا إدراك .. ثم لا يلبث هذا الوليد حتى يكون له السمع والبصر والإدراك .. وإذا هو هذا الإنسان ، كما هو في كل موقع من مواقع الحياة ..