يرون للآخرة ظلا ، أو خيالا ، فى أنفسهم .. (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).
وفي تعدية المصدر «عم» ، بمعنى أعمى ـ بحرف الجر «من» بدلا من «عن» الذي هو للفعل ، إذ يقال : عمى عن الشيء : ولا يقال عمى منه ، إلا إذا كان الشيء هو السبب في العمى ، الذي جاء من جهته .. وهذا ـ والله أعلم ـ ما أريد هنا ، وهو أن الآخرة ، كانت سببا في عمى الضالين والمشركين .. وذلك أن أمر البعث ، والحساب والجزاء ، هو مضلة الضالين ، وغواية الغاوين.
وليس الإيمان بالله هو السبب في تردد المشركين وتوقفهم عن الإيمان .. وإنما كان ترددهم وتوقفهم عن الإيمان بالله ، لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالبعث والحساب والجزاء .. وهذا هو الذي يتردد إزاءه المترددون ، ويتوقف عنده المتوقفون .. وإنه ليسير غاية اليسر على المشركين أن يستبدلوا إلها بإله ، وربا برب .. وليس من اليسير أبدا أن يقبلوا ربّا لا يقبلهم إلا إذا آمنوا بالبعث بعد الموت ، ثم الحساب والجزاء .. فذلك هو الذي لا تقبله عقولهم ولا تتصوره مدركاتهم .. ولقد كان أكثر جدلهم واقعا على البعث بعد الموت ، وفي هذا ما حكاه القرآن عن المشركين والمكذبين بيوم البعث : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟) (٧ ـ ٨ سبأ) إنهم يعرفون الله ، وإن كانت معرفة سقيمة معتمة ، وإنهم ليقرون بوجوده ، ويتهمون النبي بالافتراء على الله ، ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعث الناس ، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز القرآن الكريم ، يحتاج الوقوف عليه إلى شىء من النظر الخاشع بين يدى هذا الجلال المشرق من سماوات الحق ..