ولأول مرة نعرف ـ نحن النظارة ـ مضمون هذا الكتاب الذي حمله الهدهد .. إنه رسالة من ملك إلى ملكة .. والهدهد ، وهو حامل هذه الرسالة ، ليس من شأنه أن يسأل عن مضمونها ، وليس من وضعه في القصة أن يعرف محتواها .. وبهذا ظلت الرسالة سرا محجبا ، حتى بلغت الجهة الموجهة إليها .. وهذا تدبير تقضى به الحكمة والكياسة ، وتفرضه أصول الحكم ومقتضيات السياسة.
ومن جهة أخرى .. فإن الملكة كذلك ، لم تفصح لقومها عن الأسلوب الذي بلغتها به هذه الرسالة ، ولم تكشف عن وجه الرسول الذي حملها إليها .. بل ألقت إليهم الخبر مجهّلا هكذا : «إنى ألقى إلى كتاب كريم» وفي هذا التجهيل للمصدر الذي جاء بالكتاب ، ما فيه من إيحاءات كثيرة بأنها الملكة الساهرة على رعيتها ، الحافظة لأمن دولتها ، وأنها تملك من القوى الخفية التي لا يراها قومها ـ ما يعينها على ضبط أمورها وحياطة شعبها .. وهكذا يضفى على الملكة بهذه الحركة البليغة البارعة ، جلال فوق جلالها ، وروعة فوق روعة سلطانها ..
وفي وصف الرسالة بأنها كتاب كريم ، أدب من أدب الملوك ، تقابل به الملكة ما في الرسالة من أدب النبوة والملك معا .. فقد كانت الرسالة موجزة العبارة ، وضحة المعنى ، بيّنة القصد ، لا تحمل وعيدا ، ولا تهديدا ، وإنما تحمل دعوة إلى السلام والإسلام ..
وحين يستمع القوم إلى هذا الخبر الذي ألقت به الملكة إليهم ، تدور الرءوس ، ويكثر الهمس ، واللغط وتتقلب العيون ، تتفرس في الوجوه ، وما انطبع عليها من آثار لهذا الخبر المثير!.