إلى أهلها أن ينزلاهما فيها منزل الضيفان ، فلا يجدان منهم إلا الصدّ ، والدّفع .. قرية ماتت فيها كل مشاعر الإنسانية ، وذهبت منها كل معانى المروءة .. ومع هذا يجدان فيها خربة ، لا يأوى إليها إلا الهوامّ ، فيغشيانها ، ليجدا فيها من السّكن ما لم يجداه عند أهلها .. ثم يريان فيها جدارا (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) قد تصدّع بنيانه ، وارتعشت أوصاله ، وكاد يهوى إلى الأرض .. وهنا يدعو العبد الصالح عزمه وقوته ، فيقيم هذا الجدار المتداعى ، وإذا هو وقد دبت الحياة فى كيانه ، فثبتت قواعده ، واعتدل قوامه!!
ويرى موسى هذا ، فيعجب ويدهش ، ويفيض به الكيل ، ثم لا يملك أن يحتفظ بما يزمجر فى صدره من مشاعر الغيظ والألم .. فيقول لصاحبه :
* (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)؟
وفى هذه القولة لم يلق موسى بكل ما عنده .. ولكنّه ، وقد عرف أن تلك هى الحاسمة القاطعة لما بينه وبين صاحبه ، وإنه ليعزّ عليه أن ينهى هذه الصحبة ، التي حرص عليها ، وتوقع العلم الكثير المفيد منها ـ يعزّ عليه أن ينهيها على هذا الوجه ، ولم يحصّل علما ، ولم يفد معرفة ، وإنما كل محصوله منها هو تلك المتناقضات ، التي يقع كثير منها فى كل لحظة من لحظات الحياة ، وفى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية ، على مختلف مستوياتها ..
ـ نقول إن موسى لم يلق بهذه القولة المستكينة الضارعة ، إلا ليجد لها عند صاحبه قبولا ، فلا يحتسبها عليه ، ولا يعدّها مما ينقض الشرط الذي بينهما ، فيمضى به إلى غاية أخرى ، لعلها تكشف له علما ، أو تجىء إليه بجديد غير هذا الذي ما زال صاحبه يطلع به عليه!
ولكن العبد الصالح لا يلتفت إلى المشاعر التي تلبّست بها هذه القولة ،