لا فى هذه القصور الشامخة ، وما تكتظّ به من أثاث ورياش ، وما يموج فيها من جوار وغلمان ، وما تحفل به من موائد ومطاعم ، وما يساق إليها من ذهب وفضة .. ولكن فى بيوت متواضعة ، تسكنها نفوس عمرتها السكينة ، وتعمرها قلوب عمرها الحق والعدل والخير ..
أعرفت شيئا من سيرة عمر بن الخطاب؟ وأعرفت كيف كان طعامه لقيمات جافة من خبز الشعير وإدامه قطرات من الزيت أو الخل ، لا يجتمعان معا .. وهو خليفة المسلمين ، ووارث ملك القياصرة ، وعرش الأكاسرة؟ وأ رأيت كيف كان لباسه من المرقع الخشن ، وبين يديه ما شاء من دمقس وحرير ، مما جلب من صنعة الشام ، والعراق ، ومصر ، واليمن؟ ثم أشهدت خليفة المسلمين وهو قائم فى الشمس يهنأ إبل الصدقة ، ويعالج جر باها؟
لا تنظر فى هذا إلى عظمة عمر ، ولا إلى زهده ، وعفته ، ولا إلى خوفه من ربه وخشيته ليوم لقائه ، وانظر إلى عمر ، وإلى السعادة الغامرة التي تملأ جوانحه ، وتفيض على الناس من حوله ..
إن عمر وهو يردّ شربة الماء البارد فى يوم صائف ، ويرفعها عن شفتيه حين وجد نفسه تهشّ لها ، وترقص طربا لاستقبالها ـ إنه ليجد السعادة مضاعفة حين غلب هواه ، وحطّم شهوته ، وقهر سلطانها .. إنه الآن ملك غير مملوك ، وسيد غير مسود ، وقادر غير عاجز ، ومتسلط غير متسلط عليه ، وحاكم غير محكوم ..
وشتان بين عمر لو شرب هذا الماء ، وبين عمر هذا الذي أبى على نفسه أن تشربه!
هذه لغة لا يعرف مدلول ألفاظها إلّا من عانى مثل هذه التجربة وعاشها ،