ينقض حكم هذا الظاهر المشاهد ، ويوقع بعض الناس فى حيرة ، وبلبلة حينما يقصرون نظرهم على هذا الاختلاف القائم بين الناس والناس ، ولا يرون ما وراءه من تلاحم ، وتجاوب ، وائتلاف : فيخيّل إليهم أن الوجود الإنسانى وجود يحكمه الاضطراب ، ويسوده القلق ، ويستولى عليه الفساد ، بسبب هذا الاختلاف ، الذي يبدو وكأنه لا يجتمع معه شمل ، ولا يستقر به حال!
ومن واقع هذه النظرة إلى ظاهر الحياة الإنسانية ، وما يطفو على سطحها من اختلاف بين الناس ـ حاول الكثير من الفلاسفة والمصلحين أن يعالجوا هذا الاختلاف بين الناس ، وأن يعملوا على صوغهم صياغة جديدة ، تجعل من مجموعهم إنسانا واحدا ، مكررا .. فإن لم يكن ذلك فلا أقلّ من أن يقسّموا إلى مجموعات ، كل مجموعة منها تحوى أعدادا من الناس ، على هيئة واحدة ، لا خلاف بين إنسان وإنسان فيها ..
ومن أجل هذا ، وقع فى تفكير بعض الفلاسفة ما عرف بالمدن الفاضلة ، التي صوّر فيها الناس على هيئة جسد بشرى .. تمثل فيه كل جماعة من الناس ، عضوا من أعضائه .. فهناك من يمثلون الرأس ، وهناك من يمثلون الأيدى ، أو الأرجل ، وهكذا .. كما نرى ذلك فى مدينة أفلاطون فى الغرب ، ومدينة الفارابي فى الشرق!
وإلى جانب هذه المدن الفاضلة التي ارتسمت فى أذهان الفلاسفة ، ولم يقدّر لها أن تخرج إلى عالم الواقع ـ إلى جانب هذا قامت محاولات كثيرة ، ودعوات متعددة فى القديم والحديث ، يراد بها المساواة بين الناس ، مساواة مطلقة ، وخاصة فيما يتصل بالملكيّة الخاصة ، فكانت تلك الدعوات التي ظهرت فى المجتمعات البشرية والتي تحمل إلى الناس فوضى الإباحة المطلقة لكل شىء فى المال ، والنساء ، والزرع ، والضرع ، وكل ما يكون للناس فيه حاجة ..