وهكذا .. ليملئوا كل فراغ على الأرض ، ويسلكوا كل سبيل فيها .. فيكون منهم الزارع والصانع ، والتاجر ، وراكب البحر ، وساكن الفلاة ، وصاحب القصر ، وصاحب الكوخ!
تلك هى مشيئة الله فى عباده ، وإرادته النافذة فيهم ، وحكمته المقدّرة لكل شىء قدره!
يقول الجاحظ فى تعليل هذا الاختلاف بين الناس ، وتباين حظوظهم فى هذه الدنيا : «اعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم!
«ولم يحبّ أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم!
«لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة ، وكانوا مخيّرين فى الأمور المتفقة والمختلفة ، لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة ، وفى هذا ذهاب العيش ، وبطلان المصلحة ، والبوار والتّواء (١) ..
ثم يقول الجاحظ :
«ولو لم يكونوا ـ أي الناس ـ مسخرين بالأسباب ، مرتهنين بالعلل ، لرغبوا عن الحجامة أجمعين ، وعن البيطرة ، والقصابة والدباغة (٢) ولكن كل صنف من الناس مزيّن عندهم ما هم فيه ، وممهل عليهم ..
«فالحائك إذا رأى تقصيرا من صاحبه أو سوء خدمة ، أو خرقا ، قال
__________________
(١) البوار : الفساد» والتواء : الهلاك.
(٢) القصابة : الجزارة .. وهذه الصناعات التي ذكرها الجاحظ كانت محتقرة عند العرب.